أخبارأخبار عاجلةمقالات
قطر ومقاطعوها: رمتني بدائها وانسلت/محمود أحمد الطرابلسي
لم يكن توتر العلاقات القطرية مع بعض دول الخليج أمراً جديداً، فقد ظلت يدُ الدهر الخرقاء تُبلي من علاقاتهم ما لم تُجِد، منذ أن قررت الدولة الصغيرة قطر أن تكسر منحنى الخط، فتنتهج لنفسها سياسة الانفتاح الإعلامي، والانحياز للمواطن العربي، والاستثمار الذكي في مفاصل الاقتصاد الدولي. وكل ذلك مما تم اعتباره تغريداً خارج سرب المحيط الخليجي المتجذر، حيث الطموح لمواكبة اندفاعات الحضارة شيء آخر.
ظل الجفاء يطبع علاقات السعودية والإمارات والبحرين بدولة قطر، غير أن الأمور سارت بوتيرة دراماتيكية يوم 5 يونيو، حين أعلنت هذه الدول، مُظاهرةً بدول عربية أخرى مثل اليمن والأردن وموريتانيا وحكومة شرق ليبيا، قطعَ علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، وحصارها من خلال غلق منافذها البرية والبحرية.
جذور الأزمة الخليجية
قرر الاحتلال الانجليزي، بسبب ضغوط داخل برلمانه تتعلق بالميزانية، أن يرفع يده عن شبه الجزيرة العربية في 1968، فبدأت الإمارات الموجودة يومئذ عقد تحالفات لتشكيل كيانات سياسية تسدّ الفراغ الذي سيخلفه رحيل الاحتلال البريطاني، حيث سعى الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم و الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لإقامة تحالف واسع من في المنطقة، يتم التئامه في دولة واحدة يُعلن عنها قبل رحيل بريطانيا، فضمت الإمارات السبع التي تشكل الإمارات العربية المتحدة، بالإضافة لقطر و البحرين اللتين رفضتا ذلك فانفصلتا عن المبادرة وأعلِنتا دولتين مستقلتين.
و قبل ذلك، كانت السعودية قد سعت لاحتواء قطر، باعتبارها جزءا من إقليم الأحساء ثم استمرت في تلك المطالب إلى أن ألجمها تدخلُ البريطانيين.
قامت العربية السعودية بالتنازل عن أجزاء من “واحة البريمي” للإمارات في خريف 1974، مقابل الشريط الساحلي (خور العديد) الذي أصبح حاجزا حدودياً طبيعياً بين قطر والإمارات، مما جعل القطريين يضطرون للعبور من اراضٍ سعودية للوصول للإمارات، حيث لا حدود مشتركة بين قطر والإمارات، بسبب ما يمكن اعتباره “تدخلا سعودياً لتغيير الحدود القطرية”.
وكان قد نشب أيضا نزاع عسكري سريع بين قطر والسعودية، في 30 سبتمبر 1992، انتهى بمقتل ضابط سعودي وجنديين قطريين، وسيطرة السعودية على منطقة تسمى “الخفوس”.
وبعد إحباط قطر لانقلاب عسكري كان يسعى لقلب نظام الحكم فيها عام 1996، كشفت الحكومة القطرية عن تفاصيل تتعلق بتورّط السعوديين والمصريين في الانقلاب الذي أخذ طابعا قبليا صرفا.
بالعودة إلى الوراء نعرف أنه في عام 1939 منحت القوة الاستعمارية السابقة (بريطانيا) أرخبيل جزر حوار للبحرين، التي حولتها إلى موقع سياحي غير أن قطر لم تعترف حينها بالقرار البريطاني، إلى أن اقترحت في 2001 حل الخلاف سلمياً عن طريق محكمة العدل الدولية، وهو مقتضى توصية مجلس التعاون الخليجي في بيان أبو ظبي 1992، فكان لمحكمة العدل قرارٌ نهائي بملكية البحرين لأغلب جزر أرخبيل حوار، بينما منحت قطر السيادة على جزيرتي جنان وفشت الديبل ومنطقة الزبارة. ورغم اطمئنان قطر لحكم محكمة العدل الدولية، فلم يزل الحكمُ شجىً في حلوق البحرينيين الذين اتهموا قطر بقضم ثلث مساحتهم. رغم أن الحكم امتصّ بعض التوتر الذي كاد أن يتطور إلى نزاع مسلح في 1986.
في القمة الخليجية التي عقدت في مسقط ديسمبر 1996 تم اختيار جميل الحجيلان أمينًا عامًا لمجلس التعاون الخليجي مقابل مرشح قطر عبد الرحمن العطية – الأمين العام السابق – مما حمل أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني على مقاطعة الجلسة الختامية لقمة مسقط.
طويَ ملف النزاع، و إن بقي تحت الرماد لهيب جمر، فتحولت النزاعات الحدودية إلى ضغائن سياسية..!
في عام 1996 أطلقت قطر قناة “الجزيرة” التي بدت من وهلتها الأولى منبراً للآراء المصادرة، ومتنفسا للآهات الحبيسة، فكانت ضالة المواطن العربي الذي طالما حلم بإعلام جهوري الصوت، يجاهر بمعاناته وتطلعاته.. غير أن هذا الرأي الصدّاح بهموم الشعب المقهورة لم يرُق للقادة العرب الذين رأوا فيه نبراس الوعي الذي يقض مضاجع الطغاة.
ثم كانت الصدمة الأخرى للسعودية وأذنابها، حين وطدت قطر علاقات دبلوماسية مع إيران، التي تتقاسم معها موارد هائلة من الغاز الطبيعي بدأت في مطلع الألفية استغلاله والتخطيط لتطويره المشترك.
غير أن أكثر ما أثار حفيظة المستبدين العرب هو موقف قطر في 2011 من الثورات العربية، التي دكت عروش الطغاة، حيث انحازت فيها للمواطن المقهور، فكانت اليد التي تربت على كتفه، والساعد الذي يكسر قيوده، ويفك عن معصميه أصفاد الذل والتبعية.
أما بقية دول الخليج فاعتبرت أن انتفاضة الشعوب العربية، التي أصبحت تدعى “ربيعاً عربياً” لا تعدو أن تكون “زعزعة لاستقرار المنطقة وتهديداً لحكّامها”. وعندما تناقضت المواقف تضاربت المصالح، حيث دعمت قطر و السعودية في سوريا و ليبيا جماعات مختلفة تتنافس على السلطة و النفوذ، فقادت السعودية دول الخليج في مارس 2014 لتعليق علاقاتها مع قطر لعدة أشهر، مهددةً بالأسوأ.
وكانت السعودية قد سحبت قبل ذلك في 2002 سفيرها في قطر صالح الطعيمي، جراءَ بث قناة الجزيرة القطرية لبرنامج عدته مسيئا لمؤسس المملكة الملك عبد العزيز آل سعود.
المخالب القطرية
كانت قطر البلد الصغير الذي يتكالب عليه جيرانه، تداعي الأكَلَةِ على القصعة، ذكيةً في بحثها عن ظهير تتوكأ عليه حين يسعى المحيط الإقليمي لكبح استقلاليتها وهضم سيادتها، فأنشأت جهازا إعلاميا قوّياً، ووطّدت علاقاتها بالقوى العظمى، أمثال أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وبذرت نواة سياسة إقليمية مستقلة عن المحور السعودي، وأقامت جسور تواصل مع منظمات وهيئات عابرة للحدود، مثل حركة الإخوان المسلمين، مما خوّلها لعب أدوار محورية في نزاعات إقليمية مثل دار فور والصومال. كما اتسمت استثماراتها الاقتصادية بالنجاعة والعبقرية الطافحة. وأضافت نَفَساً مستنيرا لعقيدتها “الوهابية” حيث أباحت للنساء قيادة السيارات وسمحت للأجانب بهامش من حريتهم..
بهذا نبتت للأخ الصغير مخالب تحميه من الوصاية الاستفزازية الأخ الكبير”.
حجج المقاطعة.. أو بيوت العنكبوت.
قطعُ السعودية والإمارات لعلاقاتها مع قطر، سبقته إرهاصات ومقدمات، حيث تم اختراق الموقع الرسمي لوكالة الأنباء القطرية، ونشر تصريحات مكذوبة نسبت لأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، قبل أن تتحجج السعودية والإمارات لمقاطعتها لقطر، وإيعازها بذلك لدول أخرى تم سوقها بعصىً وإغراؤها بجزرة، بـأن “قطر دولة تدعم الإرهاب”.
وكما يقول المثل العربي “رمتني بدائها وانسلت”.. حيث لا يكاد يصدر تقرير لمؤسسة أو منظمة تعنى بمكافحة الإرهاب إلا تبوأت فيه السعودية صدارة الدول الداعمة له، حيث يعتبر الغرب أن الإرهاب والتطرف الديني يستمد جذوره من الفكر الوهابي، فمحمد بن عبد الوهاب (1703-1791) الذي يعتبره السعوديون مصلحاً دينياً كان هو القوة الإيديولوجية التي أقامت الدولة السعودية الاولى (1745-1818)”.
وهكذا كانت أحداث 11 سبتمبر فاتحة عهد جديد من الممارسة الإرهابية، كان لها ما بعدها، و كان منفذوها 19 إرهابياً، 15 منهم سعوديون، و اثنان إماراتيون، و مصري واحد هو محمد عطا و لبناني هو زياد الجراح، و كان من المفترض أن ينضم إليهم عضو آخر هو تركي المطيري أو محمد مانع القحطاني (كما ترجح دوائر الاستخبارات الأمريكية) و كلاهما سعودي.
وقد حقّق مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي في اتهامات لهيفاء الفيصل زوجة السفير السعودي السابق الأمير بندر بن سلطان بتحويلها أموالاً لاثنين من منفذي هجمات الحادي عشر سبتمبر، هما خالد المحضار ونواف الحازمي اللذين كانا يقودان الرحلة رقم 77 على متن طائرة البوينغ التي ارتطمت بمقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون).
وهكذا لا يوجد قطري واحد من منفذي تلك الهجمات ولا من المخططين لها بعكس السعوديين الذين نفذوها وخططوا لها واستمروا على نهجها.
ويُعتبر المواطنون السعوديون أكثر الجنسيات العربية في سجن غوانتانامو، مع اليمنيين والمصريين والإماراتيين، أما المواطن القطري الوحيد الذي يوجد في هذا السجن سيء الصيت فهو جار الله المرّي الذي تم تجنيده في 2001 بمكة المكرمة للانضمام لتنظيم القاعدة من طرف المواطن السعودي أبي الوليد المكي.
والمتتبع لأخبار الانتحاريين الذين يستهدفون ضحاياهم من المدنيين الأبرياء، سيجد العلاقة الوطيدة بين السعوديين ومرتكبي تلك الجرائم الإرهابية، حين يُعجِزه إيجاد خيوط تربط القطريين بها، عكس السعوديين الذين يتولون مناصب قيادية في تنظيمي “القاعدة” و “داعش”، فالسعودية بفكرها ونمط حكمها ومواردها المادية توفّر حاضنة ودعما اقتصاديا للإرهاب، وهو الأمر الذي جعل كلوديا روث نائبة رئيس البرلمان الألماني تؤكد مؤخراً أن “السعودية أكبر مصدّر للإرهاب في الشرق الأوسط”.
وكان موقع “غلوبال ريسيرش” الكندي قد نشر تقريرا اشار فيه إلى وثيقة سعودية سرية تتحدث عن اتفاق قامت به السلطات السعودية مع زهاء 1300 سجين يقضي بإعفائهم من إقامة الحد الشرعي وصرف معاشات شهرية لعائلاتهم مقابل تأهيلهم وتدريبهم، ثم إرسالهم للـ”جهاد” في سوريا.
وهكذا فإن بن إيمرسون المقرر الخاص للأمم المتحدة لشؤون حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب عبّر عن قلقه من “حصول أكثر الجماعات ممارسة للعنف على دعم مالي ولوجستي مرتبط بمصادر داخل السعودية”.
أذرع الأخطبوط الإماراتي
من الذرائع التي اتخذتها السعودية والإمارات لقطع علاقاتها مع قطر وضرب حصارها الجائر عليها، ما حاولوا ترويجه، افتراءً، من “تدخل قطر في الشؤون الداخلية للدول العربية”، وهنا أستحضر قول أبي الأسود الدؤلي:
يا أيهــا الرجـــل المعــــلم غـــــــــــيره هلّا لنفسك كان ذا التعـليم
تصف الدواءَ لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنـت سقيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيّــــــــــــــها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فمن يتابع المشهد السياسي العربي طالعته أذرع الأخطبوط الإماراتي التي تقتحم كل جحر ووِجار.
فمَن يتمالؤ مع الرئيس التشادي إدريس دبي لضرب الاستقرار في ليبيا؟
لقد ظل تنسيق إدريس دبي مع الإمارات قائماً، من أجل تعقيد الوضع الليبي، و دعم التناحر فيها، و كانت زيارة دبي للإمارات في 27/05/2016 تتويجاً لزيارات سابقة قام بها مدير الأمن التشادي جدي صالح، تمت بترتيب و تنسيق من خليفة حفتر، الذي زار تشاد في اكتوبر 2015 بهدف التنسيق بين المجموعات الداعمة له (الإمارات، مصر، الأردن، تشاد) و قد اقترح حفتر ـ حسب ما أفادت به مصادر إعلامية متطابقة ـ أن يتم ترتيب اتصالات بهذا الصدد بين جهازي الأمن التشادي والإماراتي، ليجمع اللقاء الأول في 19 اكتوبر 2015 بين مدير الأمن التشادي جدي صالح بالشيخ هزاع بن زايد مستشار الأمن الوطني لدولة الإمارات،
وكانت ثمرة الاجتماع في الاتفاق، على تنسيق أمني واستخباراتي بين تشاد والإمارات، والسعي بمؤازرة مصر لدعم حفتر في صراعه مع مجموعة طرابلس، على أن تلتزم الإمارات بتوفير الدعم المادي واللوجستي لتشاد التي ستمرّر جزءا من هذا العتاد لمجموعة حفتر.
لقد أوكلت الإمارات لتشاد مهمة تجهيز قوة عسكرية للتدخل في ليبيا.
وهكذا ففي 11 يناير 2016 قام مدير جهاز الامن التشادي بزيارة دولة الامارات مرة أخرى لمتابعة حصاد الاتفاق الذي توّصل له الطرفان في أكتوبر 2015.
وتؤكد مصادر ليبية عليمة أن الأمارات أوصلت للجنرال حفتر كمية من السلاح عن طريق تشاد في مارس 2016. كما زار الجنرال عمر دبي (شقيق الرئيس التشادي ومدير الإمداد في جيشه) رفقة زكريا إدريس دبي (ابن الرئيس التشادي) الإمارات بتاريخ 06/06/2016 لاستلام كمية من السلاح ثم المغادرة في 08/06/2016.
كانت إملاءات الإمارات على بيدقيها الرئيس دبي والجنرال حفتر أن لا هوادة دون الانتصار على مجموعة طرابلس، وأن لا اعتراف بحكومة السرّاج، ولا توانيَ دون إجهاض مشروع المصالحة التي تمت في الدوحة بين الطوارق والتبو، مما يدعم موقف حفتر التفاوضي ويعزّز استيلاءه على حقول النفط.
وهكذا ففي الجنوب الليبي قدمت الإمارات دعمها العسكري لبعض الكتائب المحسوبة على الزنتان (القعقاع. الصواعق. المدني) من خلال عملائها محمود جبريل والعارف النايض وعبد الله ناكر وآخرين، كما دعمت قبائل التبو في حربها مع الطوارق، حيث كانت تزودهم بالسلاح عبر مطار أم جرس، ومن خلال إدخاله عن طريق الصحراء، بالتنسيق مع إدريس دبي وحركة العدل والمساواة السودانية، وهو ما أسفر عن مقتل 367 من الطوارق، وتشريد 37 ألف نسمة من مكونات أوباري.
وعندما سعت قطر لرأب صدع العلاقة بين التبو والطوارق، وإصلاح ذات بينهم، فنجحت فيما فشل فيه كثيرون، لم تأل الإمارات جهدا في أن تدق بين الطوارق والتبو عطر منشم، فحركت عملاءها في الطرفين، ودعمت الضابط ابن نايل حين أفرج عنه بعد أن كان مسجوناً في مصراته لاعتدائه على “القوة الثالثة”، فبدأ تنفيذ مشروعها من خلال السيطرة على قاعدة براك الشاطئ، التي اشتد فيها وطيس الحرب بين كتائب بن نايل وقوات الكرامة التي تدعمها الإمارات ومصر مع القوة الثالثة، مما كان سبباً في سقوط 141 قتيلاً.
الإمارات التي تتحدث الصحافة السودانية عن تدخلها في شؤون الخرطوم من خلال علاقاتها بمدير مكتب الرئيس السوداني السابق الفريق طه عثمان.. وتتحدث الصحافة التركية عن دعمها الانقلاب الفاشل ضد حكومة حزب العدالة والتنمية بثلاث مليارات دولار، لا يمكنها إلا أن تكون آخر من يتحدث عن “التدخل في شؤون الآخرين”..
ولكن صدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- “إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت”.