مقالات

عبد الباري عطوان/ إنهم يتاجرون بدماء الشهداء

لا يمكن وصف قرار السلطة الفلسطينية في رام الله بسحب مشروع القرار المقدم إلى المجلس الدولي لحقوق الإنسان في دورة انعقاده يوم أمس في جنيف، الذي يتبنى تقرير ريتشارد غولدستون ويتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية، إلا بكونه «وصمة عار» يستحق الذين يقفون خلفه المثول أمام محكمة شعبية فلسطينية، بتهمة المتاجرة في دماء الشهداء وبيع الحقوق الوطنية الفلسطينية دون مقابل غير الرضى الأمريكي ـ الإسرائيلي عليهم وعلى سلطتهم البائسة.
ماذا سنقول لشعوب العالم التي تظاهرت في الشوارع طوال أيام العدوان على قطاع غزة، في مختلف عواصم العالم، بل ماذا سيقول هؤلاء الذين أصدروا أوامرهم بسحب التصويت على التقرير ومشروع قرار إحالته على مجلس الأمن الدولي للشهداء والجرحى والمشردين في قطاع غزة؟
أكثر من خمس وثلاثين دولة ساندت مشروع القرار ورفضت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية بإباء وشمم، مضحية بمصالحها، انتصارا لشهداء فلسطين وتضامنا مع ذوي الضحايا، لتأتي مكالمة بائسة إلى «السفير» الفلسطيني في جنيف، من رئيسه في رام الله السيد محمود عباس، بسحب طلب التصويت، ليذهب هذا السفير إلى «نظيره» الإسرائيلي مبشرا بالخبر السار الذي ينتظره نتنياهو وباراك وكل مجرمي الحرب الإسرائيليين.
إسرائيل تفرج عن عشرين أسيرة مقابل شريط طوله دقيقة واحدة عن أسيرها الجندي شليط، ومئات من الأسرى في سجونها مقابل رفات جنود قتلوا في لبنان، بينما سلطتنا تفرّط في دماء شهدائنا وحرية أسرانا دون مقابل.
تنازل كبير لم يحلم به نتنياهو ولا وزير خارجيته افيغدور ليبرمان أو وزير دفاعه إيهود باراك الذي خطط ونفذ العدوان على قطاع غزة. تنازل مجاني يشكل إهانة مذلة لآلاف الشهداء، ومثلهم من الأسرى الذين ضحوا بحياتهم أو حريتهم من أجل قضية عادلة، وانتظروا طويلا، ومعهم الملايين من أبناء شعبهم هذه اللحظة التاريخية التي يرون فيها مجرمي الحرب الإسرائيليين يقفون خلف القضبان، بتهمة ارتكاب مجازر حرب ضد الأبرياء العزل والإنسانية بأسرها.
لم يفوّض الشعب الفلسطيني السيد عباس ولا «المجموعة» المحيطة به لبيع دماء الشهداء بهذا الرخص، ومقابل وعود هزيلة باستئناف مفاوضات أكثر عبثية وسط ضجيج البلدوزيرات وخلاّطات الإسمنت التي تقيم المستوطنات الجديدة وتوسع القديمة وتهوّد المدينة المقدسة.
من يتنازل عن دماء الشهداء بهذه السهولة وبهذه الطريقة المخجلة، يبيع قضية فلسطين وحقوق شعبها دون أن يرف له جفن، وهذا ليس غريبا على هؤلاء الذين تواطؤوا في الأساس مع العدوان على قطاع غزة وتقدموا مع المندوب الإسرائيلي في مجلس الأمن الدولي بمشروع قرار مشترك يعتبر قطاع غزة منطقة «خارجة عن القانون» يجب أن تخضع لأبشع أنواع الحصار والتجويع من قبل المجتمع الدولي.
الرئيس عباس غير مفوّض من أي مرجعية فلسطينية لتقديم هذا التنازل المعيب: لم يفوّض من اللجنة التنفيذية للمنظمة، ولا من المجلس الوطني، ولا حتى من اللجنة المركزية لحركة «فتح» المنتخبة أخيرا، وفوق كل هذا وذاك فهو رئيس منتهية ولايته منذ عشرة أشهر.
اللجنة المركزية لحركة «فتح»، التي تضم العديد من الشرفاء المناضلين من أصحاب التاريخ النضالي العريق، مطالبة بالتحرك الفوري، ليس للتحقيق في كيفية حدوث هذه المهزلة فقط، وإنما لتقديم المسؤولين عنها إلى محكمة حركية لمعاقبتهم وفق الإجراءات المتبعة، لمنع حدوث أي تكرار لهذا التفرد الخطير بالقرار الفلسطيني، والتفريط بالتالي في الثوابت الفلسطينية.
هذا التفريط المعيب والمخجل الذي حدث في جنيف تم باسم حركة «فتح»، ومن قمة القيادة فيها، ولذلك فهي مطالبة بالكف عن الهروب من مسؤولياتها، تحت أعذار مختلفة، والتصدي بقوة لهذا الانحراف الخطير عن ميثاقها وإرثها النضالي العريق؛ ففلسطين وقضيتها تتقدمان على كل الاعتبارات الفصائلية، وحركة «فتح» عندما انطلقت وأطلقت الرصاصة الأولى قدمت نموذجاً في الوطنية والتضحية من أجل قضية شعبها.
نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ونقول إننا نسمع عن تحرك غاضب في أوساط اللجنة المركزية للحركة يريد أن يحمل المسؤولية لأشخاص مثل ياسر عبد ربه أو سلام فياض، لأنهما من خارج الحركة، وتحميلهما مسؤولية هذه السقطة وتبرئة الرئيس محمود عباس بالتالي، وهذا قمة التضليل وهروب من الحقيقة لا نقبله لهم ولا للحركة، لأن هؤلاء لا يمكن أن يقدموا على أي خطوة دون موافقة «الحبر الأعظم».
دماء الشهداء تُباع حالياً في سوق النخاسة ومن أجل صفقة هاتف محمول ومقابل حفنة من ملايين الشيكلات، تذهب إلى حسابات شركة أصحابُها هم بعض المتنفذين وأبناؤهم، والشعب الفلسطيني يعرف هؤلاء جميعاً، واحداً واحداً، ولن يصمت طويلاً، بل يجب ألا يصمت على هذه المتاجرة بأعز وأشرف ما يملك، أي أبنائه الشهداء ودمائهم.
نشعر بالخجل ونحن نرى ريتشارد غولدستون، اليهودي الصهيوني، أكثر وطنية من قيادة السلطة وبعض حوارييها، عندما يتمسك بتقريره ويؤكد كل كلمة وردت فيه عن جرائم الحرب الإسرائيلية، ويرفض شتى أنواع الابتزاز، ويصر على معاقبة المجرمين؛ ونشعر بالخجل أكثر ونحن نرى سفراء دول، مثل فيتنام وفنزويلا وبنغلاديش وروسيا وجنوب إفريقيا ومعظم السفراء العرب والمسلمين، أكثر حماسة من سفير فلسطين، في الإصرار على طرح مشروع القرار على التصويت.
نكتب بعاطفة وانفعال، بعد أن ضاع المنطق ولم يعد يفيد في التعاطي مع مثل هذه المواقف المخزية وأصحابها، فالجرح جرحنا، والقضية قضيتنا، والشهداء شهداؤنا؛ فنحن أولياء الدم، وليس هؤلاء التجار الذين ينفذون أوامر سافكيه دون خجل أو حياء.
يملؤنا الغضب والحنق ونحن نسمع «الدكتور» صائب عريقات، «كبير» المفاوضين يمارس أبشع أنواع التضليل أمام عدسات التلفزة، وهو يقول إن الوفد الفلسطيني في جنيف لم يتخذ قرار سحب مشروع التصويت على تقرير غولدستون، لأن فلسطين ليست عضواً في المجلس الحقوقي العالمي، وإنما هي عضو مراقب. كيف يمارس «الدكتور» هذا الاستخفاف بعقولنا، وهل يعتقد أننا جهلة قصّر، يمكن الضحك على ذقوننا بهذه السذاجة؟ فكيف، إذن، صدرت جميع القرارات المؤيدة للحق العربي في الأمم المتحدة، وهي بالعشرات، وباسم من جرى تقديمها، وأبرزها قرار إدانة إسرائيل كحركة عنصرية؟ ألم تكن فلسطين عضواً مراقباً، ألم تقدم مشاريع هذه القرارات إلى الجمعية العامة ومجلس الأمن باسم دول عربية، وإسلامية وعالمثالثية مؤيدة للقضية العربية العادلة وكفاح شعبها المشروع لنيل حقوقه؟
ما حدث في جنيف، وباختصار شديد، «وصمة عار» لا يجب السكوت عليها أو السماح بتكرارها. ومــن شارك في هذه الجريمة يتساوى، في رأينا، مع الذين أدانهم التقرير الأممي بارتكاب جرائم حرب، يجب أن يعاقبوا وبصورة أشد وأقسى لأنهم انحازوا إلى أعداء قضيتهم ومجازرهم ووفروا لهم صك البراءة لتجنب أي عقاب دولي، دون أي ذرة احترام لشعبهم ومعاناته وطموحاته الوطنية ونضالاته المشروعة.

– المساء

مواضيع مشابهة

تعليق

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button