كرة القدم والهويات القاتلة/السيد ولد أباه
كتبت صحيفة “الخبر” الجزائرية في صفحتها الأولى بالعنوان العريض يوم المباراة الأخيرة بين الجزائر ومصر: “اليوم يوم الانتقام منكم يا آل فرعون”. شكلت الحكومة الجزائرية “خلية حرب” لتحضير المباراة، وكلف الرئيس “بوتفليقة” شقيقه ومستشاره لقيادة وفد رسمي وشعبي كبير للخرطوم مصحوبا بحماية أمنية كثيفة. في مصر تحولت المباراة إلى حدث سياسي محوري، استأثر باهتمام الساسة والإعلام، وسافر للخرطوم الفنانون والممثلون ونواب البرلمان وحاول زعماء “الإخوان “أن ينالوا شرف المشاركة في المواجهة المرتقبة. أما البلد المضيف(السودان) فقد عقد جلسة حكومية طارئة لتنظيم المباراة التي غطت على كل الأحداث الدولية الكبرى. وصلت الأمور إلى استدعاء السفراء والمطالبة بقطع العلاقات، شهرت السيوف ورميت الحجارة، بكى الرجال وزغردت النساء، وتضاربت الآراء حول حجم الاعتداءات والإضرار. أفضى المشهد إلى خطاب مشهود للرئيس مبارك أمام البرلمان يوم 21 نوفمبر الحالي يتوعد من يهين “كرامة مصر والمصريين” .
صحيح أن ظاهرة العنف المصاحب للسباق الرياضي ليست بالجديدة، خصوصاً مباريات كرة القدم التي كثيراً ما تؤجج المشاعر الوطنية المحمومة وتولد الكراهية والأحقاد. فخلال مونديال 1969 الذي جرى في المكسيك اندلعت حرب فعلية بين السلفادور وهندوراس خلفت ثلاثة آلاف قتيل من الجانبين. أما الحرب العرقية في يوغسلافيا السابقة، فقد انعكست في بدايتها في فرق كرة القدم، التي كانت بؤرة رئيسية لتفجير النوازع القومية العدوانية.
والواضح أن الأنظمة السياسية كثيراً ما تسعى لتوظيف واستغلال هذا الشعور القومي لأغراض التعبئة السياسية، أو تغطية نواقص الشرعية أو تأجيج شعور الكراهية اتجاه الآخر. حدث الأمر في إيطاليا أيام “موسيليني” وفي إسبانيا خلال عهد “فرانكو”، وفي الأرجنتين خلال مباراة كأس العالم سنة 1978.
وفي فرنسا، تضاعفت شعبية الرئيس السابق “جاك شيراك” إثر انتصار فريق كرة القدم الفرنسي في مونديال 1998، الذي استضافته فرنسا، وحول يوم المباراة إلى عطلة معوضة احتفاء بالحدث الذي اعتبرته إحدى الصحف الباريسية “أسعد حدث في فرنسا بعد يوم التحرير من الاحتلال الألماني”. وعندما انتصر البلد الأفريقي الصغير “السنغال” على مستعمره السابق “فرنسا” في مونديال 2002، علق الرئيس “عبدالله واد” على الحدث السعيد قائلاً :”ها نحن تغلبنا على عقدة المحتل، وكسرنا عقدة التفوق الأوروبية”، في الوقت الذي نقل الجمهور الفرنسي تشجيعه للفريق الفرانكفوني الوحيد الباقي في السباق.
وفي المقابل، قد تغدو كرة القدم ورقة رابحة للمقاومة والنضال السياسي السلمي المنظم. ففي الجزائر، تشكل فريق وطني قبل الاستقلال أدى دوراً مهماً في غرس وتجذير النزعة الوطنية والتعريف بالقضية الجزائرية في باقي العالم. وفي كاتالونيا الإسبانية أيام فرانكو، كانت الملاعب المكان العمومي الوحيد الذي يسمح فيه بالنطق باللغة الكاتالونية. وفي إيران، لم تتمكن قوات الأمن من التصدي لأول مظاهرات مختلطة بين الجنسين، اندلعت تشجيعاً لفريق كرة القدم الإيراني. وهكذا أصبحت الملاعب الرياضية من فضاءات الحرية القليلة المتاحة في بلاد الملالي.
لهذه الظاهرة جوانب أربعة تستدعي وقفة تحليل:
أولها:يدخل العنف الرياضي في باب الظاهرة الانثربولوجية المعروفة التي أطلق عليها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي “رينيه جيرار” عبارة “عنف المحاكاة”، بمعنى اندلاع الصدام والصراع نتيجة لتجانس وتشابه عناصر المجموعة، مما يتطلب نقل هذا العنف الداخلي إلى الآخر. فالكرة من هذا المنظور تؤدي دور “قربان الضحية” في التقاليد البدائية السابقة، وتساهم في تحويل مجرى العنف الذي احتكرته الدولة، ولذا كان العنف الرياضي من ضروب العنف القليلة الخارج عن تحكم هذه الدولة، حتى في الدول الديمقراطية الكبرى (كبريطانيا مثلاً التي عرفت بقساوة وعنف جمهورها الرياضي).
ثانيها: تتقاسم كرة القدم مع السياسة خصائص جلية، مثل الطاقة التحشيدية، والسمة التعبوية، والفاعلية التنظيمية، والانشداد للزعامة الكارزمية. ولقد تزايد دور كرة القدم في الشأن السياسي في السنوات الأخيرة، إلى حد أن بعض مراقبي الشأن الإيطالي أرجعوا شعبية رئيس الحكومة “برلسكوني” إلى نجاحات وشعبية ناديه (نادي ميلانو)، مدللين على أنه اختار شعار الفريق شعاراً لحزبه وحملته الانتخابية، واسند لنجوم الرياضة أدواراً سياسية صريحة، فكانت كرة القدم مدخله للعرين السياسي الذي لم يكن مهيأ لولوجه.
ثالثها: تشكل كرة القدم إحدى القنوات الرمزية القليلة المتاحة لمعايشة التجارب الإنسانية العميقة في عصر التقنية التنميطية والعولمة الزاحفة. ففي عصر اختفت فيه البطولة والأبطال وانحسر فيه الخارق والغريب، وتحولت فيه الحرب إلى عملية بوليسية تدار بأزرار اليد، تولد الكرة وهم البطولة والزعامة، وتكرس قيم التضامن والشرف، وتجذر عواطف المحبة والكراهية والإعجاب. فأبطال الكرة هم مزيج من “القديسين” وحراس البوابة الوطنية وشخصيات الأساطير الخارقة.
أما الجانب الرابع، فيتعلق بخصوصية الحالة العربية. فلقد أظهرت المباراة الأخيرة بين الجزائر ومصر حجم تجذر النزعة الوطنية الضيقة في بلدين عربيين كبيرين يجتمعان في أنهما كانا يقدمان قاطرتين للوحدة العربية وحاملتين للمشروع القومي الاندماجي. فعلى الرغم من حيوية واستمرارية الفكرة القومية في الشارع العربي(كما أظهرت كل قياسات الرأي وشتى الدراسات الميدانية في عموم البلدان العربية)، يبدو من الجلي أن الدولة الوطنية الحديثة نجحت بقوة في توطيد حضورها في الوعي والمخيال، ووظفت الشعار القومي نفسه في تدعيم شرعيتها(مفهوم الزعامة الإقليمية). ونقطة التحول التي يتعين التنبيه إليها هي أن الهوية الوطنية بدلالتها الجديدة فاقدة لمبدأ الكونية والمنظور الإنساني اللذين طبعا النزعة الوطنية في الأمم الأوروبية الحديثة التي شهدت تشكل وانبثاق نموذج الدولة- الأمة على أنقاض الإمبراطوريات الدينية الوسيطة. إن الأمر يتعلق هنا بما دعاه الكاتب والروائي اللبناني “أمين معلوف” بـ “الهويات القاتلة”(عنوان أحد كتبه الشهيرة). إنها نمط من الهويات الاقصائية، تقوم على إنكار الآخر والانكفاء على الخصوصيات الضيقة. فهي إذن أقرب للانتماءات القبلية بنعراتها المتعصبة ونرجسيتها المفرطة. وذلك هو الدرس القاسي الذي كشفته تلك المباراة التي لها ما بعدها.
موقع ايلاف