أخبار

لهذا اختارت اشباح القاعدة موريتانيا نقطة تموين لوجستي ” ربورتاج صحفي”

شكّلت الاعتقالات التي مسّت العشرات من الشباب الموريتاني من التيار السلفي المتطرف، مادة دسمة للحديث العام، خاصة بعد أن بدأت وسائل الإعلام في تعقّب مسار التحقيق معهم في مخافر الأمن وأروقة العدالة. وهنا بدأت تظهر الصلات التنظيمية والفكرية ما بين الجهاديين الموريتانيين وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب.

طلب علي سائق سيارة النقل الحضري، 6 آلاف أوقية أو ما قيمته نحو 1800 دينار جزائري، مقابل جولة ينقلني فيها عبر حواري وأطراف نواكشوط، هو مبلغ يشكل تقريبا ثلاثة أضعاف متوسط الدخل اليومي للأغلبية العريضة من موظفي الدولة من المستويات العادية، لكن عندما سألني علي وأخبرته بأنني جزائري حاول أن ينفي عن نفسه المبالغة في الثمن، بأن لاحظ، وهو محق، أن سعر اللتر الواحد من المازوت في موريتانيا يزيد أربع مرات كاملة عن سعره في الجزائر، وزاد على ذلك بأن معيشة الموريتاني على الرغم من بساطتها، إلا أن أغلب غذائه مستورد من بلدان بعيدة وقريبة، أحصى منها ضمن أمثلة عديدة، الخضر والفواكه من المغرب والعجائن من الجزائر، وقال مستدركا أنه إلى وقت قريب لم يكن الكسكسي أكلة مشهورة لدى الموريتانيين، وكثير منهم أخذ طريقة طهيه عن حصص طبخ خاصة بثت على التلفزيون ممولة من مجموعة ”سيم” الجزائرية، التي أصبحت بعد 4 سنوات من وجودها تأخذ الحصة الأكبر من سوق العجائن.

على طول الوقت كان جهاز الراديو في السيارة يبث النشرات والحصص الإخبارية لقناة ”الجزيرة” على موجات ”الأف. أم” الإذاعية، وهو حال الأغلبية الكبيرة من سائقي السيارات، في بلد لا زال كحال جيرانه في المغرب العربي، تحتكر الدولة فيه الإعلام السمعي البصري، لكنه أكثرهم تفتحا على نشاط الإعلام الخارجي وتساهلا مع طريقة تناوله للشأن الداخلي وتستضيف مكاتب نشطة ومراسلين دائمين لأغلب الفضائيات الإخبارية العربية، وستوديوهات تسجيل وإرسال حجزت مكانا لها في طابق بأكمله في فندق فخم بوسط العاصمة، كان ”علي” وهو مثقف متحصل على شهادة جامعية في الحقوق يعلق بتذمر كبير على الخبر الذي نزل لتوه عن اختطاف رجل إيطالي وزوجته من جنسية بوركينابية،على الحدود مع مالي، ”من أين يأتي هؤلاء الإرهابيون، لا ترى لهم أثرا إلا في خطف السياح ومقايضتهم بفدية، إنهم يحاربوننا في قوتنا”. راح علي يشير بانقباض إلى أن عدد السياح الأجانب الوافدين إلى موريتانيا تقلّص بشكل محسوس منذ بدأ مسلسل الاختطافات، ومعه تأثرت كثيرا الخدمات السياحية الأخرى، ومنها الفندقة والنقل”. ويضيف بتحسر ”كنا نأمل أن يتراجع منظمو رالي باريس دكار عن قرارهم إلغاء شطر موريتانيا، لكن هذه العمليات الجديدة أفسدت كل شيء” فقبل شهر فقط تم اختطاف ثلاثة إسبان، وتبنت القاعدة العملية كالعادة، لكن ”علي” وأصدقاؤه لاحظوا تحولا غير طبيعي ”اختطاف الإسبان لم يكن كالعادة على الحدود أو في أطراف الصحراء، بل على بعد عشرات الكيلومترات فقط على الطريق الرئيسي بين نواكشوط و ثاني مدينة في البلاد، نواديبو”.

يعود الإعلان عن أولى بذور التيار السلفي الجهادي في موريتانيا إلى بداية سنة 1994 لما كشف وزير الداخلية عن ”مجموعة لها نشاطات متطرفة ومرتبطة بتنظيمات دولية تهدف إلى زعزعة المعتقد ومخالفة المذهب المعتمد والتجسس على البلاد لصالح جهات معادية” أورد بينها أسماء معروفة بتوجهاتها السلفية، غير أن هذا التنظيم سرعان ما تلاشى عن الوجود وعاد السلفيون لنشاطهم الديني المعتاد متجنبين الخوض في كل شأن سياسي. وظل الهدف الوحيد للمقتنعين منهم بالطرح الجهادي هو السفر إلى بعض نقاط المواجهة الساخنة مع دول غربية مثل أفغانستان. وظل نشاط الشباب الجهاديين السلفيين في موريتانيا محدودا بفعل غلبة الخطاب المعتدل وغياب مرجع ديني يستندون إليه وشيوع التدين بين الناس وارتفاع نسبة التمدرس الديني بين المواطنين، كما يقول أحد المتابعين. لكن بالرغم من ذلك برزت عدة أسماء في مسار القاعدة وأخواتها، خاصة منذ أطلقت أمريكا حربها الكونية الجديدة مطلع العشرية المنقضية، ويحتفظ معتقل غوانتنامو إلى الآن بموريتانيين اثنين، أولهما محمدو ولد صلاحي وهو مهندس في الميكرو الكترونيك، درس واشتغل في ألمانيا قبل أن يعود إلى موريتانيا، وتم اعتقاله فى عام 2001 في فترة الرئيس السابق ولد الطايع، وقامت السلطات بتسليمه إلى أمريكا في سابقة من نوعها، إذ يعتبر ولد صلاحي السجين الوحيد الذي سلمه بلده الأصلي إلى الأمريكيين. ولا زال يعتقل إلى جانب ولد صلاحي مواطن موريتاني ثان هو أحمد ولد عبد العزيز، اعتقل بباكستان عام 2002، فيما أفرج عن ثالث أحمد ولد سيد أمين بعد سنوات من الاعتقال. لكن يبقى الوجه الأبرز بين موريتانيي تنظيم القاعدة الدولي هو محفوظ ولد الوالد المدعو أبو حفص الموريتاني، الذي اعتبر من المقربين جدا لبن لادن وقد تولى رئاسة اللجنة الشرعية في القاعدة ورصدت واشنطن جائزة 25 مليون دولار لاعتقاله. والنعمان وهو شاب برز نهاية التسعينيات، لكنه غادر البلاد إلى باكستان ومنها إلى أفغانستان التي ظل بها إلى أن سقط في مواجهة مع الأمريكيين.

لكن تبقى سنة 2005 هي نقطة التحول الكبيرة في الظاهرة الإرهابية بموريتانيا، وعلاقتها بالقاعدة فكريا وتنظيميا، عندما قامت الجماعة السلفية للدعوة والقتال بشن عملية هجوم دامية على ثكنة للجيش الموريتاني في منطقة ”لمغيطي”على الحدود، قادها مختار بلمختار، خطفت أرواح أكثر من 15 جنديا، وحمل المهاجمون معهم كمّا كبيرا من الأسلحة والذخائر، وجاء ذلك عشية تحوّل جذري آخر أنهى فيه أبرز قادة المؤسسة العسكرية عقدين من حكم الرئيس الأسبق، العقيد معاوية ولد سيد احمد الطايع، وبدأت الأوضاع السياسية تشهد حالة من التوتر السياسي والقبضة الحديدية ما بين شركاء الحكم، تزامنت مع تنفيذ القاعدة لسلسلة عمليات استهدفت المصالح الأجنبية، منها قتل سياح فرنسيين ومهاجمة السفارة الفرنسية واختطاف رهائن غربيين، وشنت السلطات الأمنية الموريتانية حملة اعتقالات واسعة شملت عدة أفراد قالت موريتانيا أنهم تلقوا تدريبا عسكريا في الجزائر وأنهم خططوا ونفذوا عمليات تستهدف مصالح موريتانيا. ومست الاعتقالات أيضا عددا من رموز التيار السلفي العلمي في البلاد وهو ما جعل الكثيرين حينها يشككون في بعض أهداف العملية، لكن التيار الإسلامي في مجمله ظل معتدلا في خطابه، يطالب بمكان تحت المظلة القانونية للنشاط السياسي. ووجهت تلك العمليات بإدانة قوية من قبل كافة القوى السياسية في البلاد.

موريتاني قاتل في الجزائر

شكّلت الاعتقالات التي مسّت العشرات من الشباب الموريتاني من التيار السلفي المتطرف، مادة دسمة للحديث العام، خاصة بعد أن بدأت وسائل الإعلام في تعقّب مسار التحقيق معهم في مخافر الأمن وأروقة العدالة. وهنا بدأت تظهر الصلات التنظيمية والفكرية ما بين الجهاديين الموريتانيين وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب، من ذلك شهادات لأشخاص اعتقلوا بتهمة ربط صلة بالقاعدة، تحدثوا عن الحضور المتقدم لعدة عناصر موريتانية شابة في جسم تنظيم درودكال ونشاطاته. وقال بعضهم من خلال الشهادات المدونة في بعض محاضر التحقيق الأمني وعند استجوابهم أمام القضاء أنهم تلقوا تدريبات عسكرية في معاقل الجماعة السلفية للدعوة والقتال.

ومن بين هؤلاء أبرز المعتقلين، المدعو الخديم ولد السمان وثلاثة متهمين آخرين بقتل السياح الفرنسيين وآخرين تتّهمهم نواكشوط باستهداف السفارة الإسرائيلية بموريتانيا. وكشف الخديم ولد السمان الذي يوصف بأنه أمير تنظيم ”القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” في نواقشط، أنه شارك في اشتباكات ومواجهات مسلحة مع قوات الجيش والأمن بالصحراء الجزائرية تحت إمرة عبد الرزاق البارا، عندما نقل نشاطه للصحراء قبل 8 سنوات. وذكر أيضا أنه بويع بعدها أميرا للتنظيم بموريتانيا من طرف مختار بلمختار، أمير المنطقة التاسعة في الجماعة السلفية، كما كشف أن الإرهابيين الموريتانيين الذين ينشطون تحت لواء القاعدة في الجزائر يلتزمون باللثام ولا يكشفون عن هويتهم للمجندين الجدد من الجزائريين وغيرهم. وقال إنه ذهب إلى معاقل التنظيم بالجزائر أربع مرات، اثنتان منهما في عام 2003، وعاد مجددا إلى معسكر الجماعة سنة 2004 وبقي به مدة تسعة أشهر قبل أن يعود مجددا سنة 2007 بعد إعلان قيادة الجماعة السلفية للدعوة والقتال انضمامها إلى ”القاعدة” وأمضى في معسكراتها أيضا أربعة أشهر أخرى قادما من السينغال. وقال الخديم ولد السمان إنه في المرة الأولى تدرّب على السلاح الخفيف والمتوسط وخاض ”كثيرا من المعارك في الجبال والصحاري ضد القوات الجزائرية”، أما في المرة الثانية، فـ”كنت في رباط في سبيل الله ولم أتدرب، كما لم أخض معارك”. وفي هذه المرة قام بمبايعة مختار بلمختار، وذكر بالاسم أهم العناصر التي تقود التنظيم والمسؤوليات التي شغلها، حتى أواخر شهر رمضان من سنة 2007، ليعود إلى نواقشط بعد أن ”اتفقت معه على تأسيس فرع للقاعدة في موريتانيا”، ”على أن نعطي تنظيمنا في موريتانيا اسم أنصار الله المرابطون”. ثم يسرد قصة الوسيط، المدعو نور الدين المقداد، وهو شاب موريتاني كان من جماعة الدعوة والتبليغ، لكنه التحق فيما بعد بالتنظيم الجهادي السلفي وهو الآن يوجد في صفوف التنظيم الإرهابي في الجزائر، وكانت أول مهمة تم تكليفه بها هي جمع الأموال التي جسدت بالاستيلاء على أموال خزينة الميناء، إلا أنهم لم ينجحوا في إكمال المهمة، حسبه، ليشير أن التحضير لأولى عمليات خطف الرهائن الغربيين ومقايضتهم بفدية مالية، بدأت عند هذه اللحظة، عن طريق ”خطف أجانب والذهاب بهم إلى مقر الجماعة في الصحراء للحصول على فدية. هذا هو الهدف الذي تم الاتفاق مع خالد أبو العباس ( عبد الرزاق البارا) عليه”.

حذر وترقّب

اليوم تعود قصة الاختطافات من جديد، ولا تبدو القاعدة مستعجلة كثيرا في ترسيم صفقتها مع الدول الغربية التي ينحدر منها الرهائن، قبل أن تستثمر الموضوع إعلاميا ودعائيا قدر المستطاع، لكن الكثيرين يرون أن المناوشات المحدودة والمتباعدة زمنيا التي تحدث من حين لآخر بين قوات الأمن والعناصر المتطرفة، تهدف بالأساس إلى تفكيك خلايا الإرهاب الصغيرة التي قد تحاول أن تتشكل من جديد. وتزداد فرص نجاح المسعى مع نجاح الرئيس ولد عبد العزيز في تجاوز أغلب آثار المرحلة الانتقالية، وإعادة ضبط شؤون الدولة والجيش. وهو ما يجعل الحكومة دائما في حالة حذر وتأهب، حتى في العاصمة التي تعرف هدوءا ملحوظا، فمنذ حادثة الفرار من السجن التي نفذها المتهمون في الهجوم على السفارة الفرنسية أصبحت الحكومة الموريتانية متنبهة جدا لهذا، وفرضت شروطا جديدة تقيد وتراقب الزيارات التي يتلقاها المسجونون.

وصادف وجودنا في نواكشوط ظهور أصوات لبعض زوجات وأخوات المعتقلين بسجن نواكشوط المركزي يشتكين من منعهن من زيارة ذويهن بسبب إصرارهن على ارتداء النقاب عند الزيارة، حيث تخشى إدارة السجن من أن ارتداء النقاب قد يكون وسيلة لإخفاء هوية عناصر مشبوهة يمكن أن تتصل بالمساجين، وتشترط تعويضه باللباس المحلي الموريتاني (الملحفة) الذي يظهر وجه المرأة.

لكن تهمة محاربة الدين، التي غالبا ما ترفعها القاعدة في وجه أنظمة عربية عديدة، ستظل تجد صعوبة في التسويق في بلد لا زال التعليم والاعتقاد الدينيان راسخين ومهيمنين فيه، ومؤثرين في النخب قبل العامة من الناس، لدرجة أن أحد الصحافيين المورتانيين قال لي إنه يعرف بالصفة والاسم مسؤولين سامين في الدولة منهم وزراء” كانوا يأتون إلى أحد المعتقلين بتهمة الانتماء للقاعدة. وهو طالب تمرس طويلا في علوم الفقه والشرع في المحاضر ”يأتونه إلى زنزانته ليطلبوا منه الرقية الشرعية التي عرف بأنه من أحسن من يقدمها”، أمر يمكن فهمه من خلال مشهد آخر، لمسجد جميل في إحدى جنبات ظهور القصر الرئاسي، يمكن ملاحظته من إحدى جهات الجدار المحيط به، قال لي مرافقي أنه كان من أولى المنشآت التي حرص شخصيا الرئيس المطاح به، سيد محمد ولد الشيخ عبد الله، على إضافتها إلى إقامته الرئاسية الواسعة، تلك بعض المقاربات التي يمكن من خلالها فهم وتفسير حرص أشباح القاعدة الذين لم يعد يراهم احد على الإبقاء على موريتانيا نقطة عبور وتموين لوجيستي، أكثر منها ساحة لنشاط عملياتي يستهدف الدولة ومؤسساتها ورموزها، باستثناء طبعا حركات سريعة لخطف رهائن ومقايضتهم بفدية مالية.

الخبر الجزائرية

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button