أخبار

موريتانيا في مواجهة الأسئلة الصعبة/الخليج

في موريتانيا مجتمع سياسي جميل، ومن جمال هذا المجتمع استعصاؤه المزمن أو المستديم على الفهم والتحليل، فالحدث لا يحمل السمات الظاهرية إطلاقاً، وإنما تشكل كل مرحلة فيه “لغزاً عنكبوتياً محيراً” .

تقول الفنانة المعلومة بنت الميداح، عضو “مجلس الشيوخ” (البرلمان) الموريتاني، “إن الصفاء والحب أكثر في الفن من السياسة” . والحقيقة التي يدركها المحللون السياسيون أن “السياسة مادة خالية تماما من الصفاء” . هنا على الأقل في ديمقراطية “الجنرالات” والمعارضات “العنيدة” .

سوء فهم كبير خيّم على الساحة الموريتانية في هذا الأسبوع السياسي المغلق، إذ إن أكثر الملفات حساسية باتت سبل معالجتها في حكم المجهول المثير، ومن ذلك ملف الحوار مع السلفية الجهادية، والتوجه الدبلوماسي الجديد، ومخطط تحيين الجنسية الموريتانية، وتحضيرات المعارضة لأيامها التشاورية، والتعديل الوزاري “الوشيك دائما”، والتعديل الدستوري المطلوب، وفيض من غيض “رمال” متحركة .

الرأي العام الموريتاني بدأ يطرح وبقوة أسئلة حول الغموض الذي يلف الوضع العام في البلد، ومستقبل مؤسساته الدستورية، والإدارية، والأهم إلحاح ملايين الفقراء المستعجلين حصاد ولاية رئاسية من خمس سنين في أشهر معلومات .

تعديل دستوري “مريب”

نبدأ مع التعديل الدستوري الذي طالبت به الأغلبية لتوازن المؤسسات الدستورية، بعد أن أصبح هذا التعديل في مرمى الرئيس . والأسئلة المطروحة حول نمط هذا التعديل هل سيقلص مثلاً بعض المؤسسات الانتخابية والدستورية غير الضرورية كجعل البرلمان غرفة واحدة بدل غرفتين، أم سيقلص عدد المؤسسات الدستورية التي تشكل عبئاً كبيراً على الميزانية رغم محدودية مردوديتها على البلد، وتطابق مهامها من جهة (غرفتي البرلمان، محكمة الحسابات ومفتشية الدولة، المحكمة العليا والمحكمة السامية . . . إلخ) .

قال أحد الرؤساء الموريتانيين السابقين لجليسه، وكان يقرأ تقريراً سابقاً أوردته “الخليج” واستعرض عدد المؤسسات الدستورية في البلاد “لم يكن لي علم بكل هذا العدد، إننا نعاني تخمة مؤسسات” .

ومما لا شك فيه أن ثنائية المؤسسات تستنزف موارد ثمينة، فإحدى غرف البرلمان تكلف 15 مليار أوقية سنوياً، والعمل النيابي هو نفسه الذي تكرره الغرفة الأخرى . ورغم ذلك فهذا “الثنائي المؤسسي” يشكل متنفساً مالياً ومعنوياً لعشرات الوجهاء والقادة السياسيين الذين يشغلون وظائفه الانتخابية والإدارية . كما يشكل ديكوراً ديمقراطياً مهماً لإقناع شركاء التنمية بجدية التجربة الديمقراطية في البلد .

ولكن يخشى أن يكون التعديل الدستوري لأغراض شخصية جداً تتيح التخلص من رئيس البرلمان وقت ما يشاء النظام، وكذلك تفكيك “التوازن النفسي” القائم بين المؤسسات المنتخبة (الرئاسة والبرلمان) . إضافة إلى أمور من قبيل إلغاء أو إضافة بعض “المطالب” أو “الموانع” المثيرة للجدل . مثل إدخال دور للجيش في حماية الدستور وغير ذلك .

أما الحوار مع السلفية الجهادية فهو يطرح أكثر من استفهام عن القصد الحقيقي منه، هل هو احتكام للفكر يمثل توجهاً راقياً، وتغليباً لكفة “الحمائم” في الاستخبارات والجيش، أم مناورة لاستعطاف التيار السلفي لتجنيب البلاد مصاعب كبيرة وحرب بالوكالة، أم مجرد لفت لانتباه الرأي العام وإشغاله عن ملفات المعيشة، أم تنفيذاً لمطلب غربي عام بضرورة الحوار مع التيارات الجهادية وكسب المزيد من الوقت بعد أن فشلت الحروب الارتجالية في تحقيق مرادها .

وكيف جاء هذا الحوار في وقت أصدر فيه النظام أحد أكثر قوانين مكافحة الإرهاب تشدداً في العالم . حتى إن “السلطة” معرضة لعقوبات قانون الإرهاب في ظل هذا الحوار؟

محور الممانعة

ومن “الحوار السلفي” إلى التوجه الدبلوماسي الجديد، بعد أن خلفت زيارة ولد عبد العزيز لإيران “عاصفة” من الاستغراب في الأوساط السياسية الموريتانية، هي بلا شك انعكاس إقليمي دولي للحساسية إزاء العلاقة الجديدة مع “محور الممانعة” .

ويرى المحلل السياسي الموريتاني أحمد ولد المأمون أن زيارة ولد عبد العزيز لطهران ونثره الورود على قبر الراحل الخميني وتصريحاته التي تحدث فيها عن “هيمنة الأشخاص” على مجلس الأمن الدولي ومنظمة الأمم المتحدة، وتعهده بالوقوف إلى جانب الجمهورية الإيرانية في المحافل الإقليمية والدولية، وقبل ذلك زيارته لطرابلس، ثم لقاؤه الحماسي ب”هوغو تشافيز” في كراكاس، واستقباله الرئيس السوداني عمر البشير في نواكشوط، وتنسيقه الواضح مع دمشق والدوحة، كل ذلك جاء بعد تهليل الغرب لانتخاب ولد عبد العزيز في الرئاسيات الماضية وخروجه من الحصار، وهو ما ينفي أن يكون توجه ولد عبد العزيز ل”محور الشر” أو “محور الممانعة” نتيجة لتداعيات الفترة العويصة الماضية (الانقلاب) .

ويضيف “هل يعني ذلك أن الدبلوماسية الموريتانية حسمت أمرها فعلاً وقررت عن كامل وعي الانضمام إلى محور “دول الممانعة” رغم معارضة جهات غربية وعربية لعلاقات متميزة مع إيران التي تحث الخطى نحو النادي النووي، أم أن هذه الدبلوماسية تمر بمرحلة “ضياع” جراء البحث عن أي متنفس للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية التي يعيشها البلد، أم تريد الدبلوماسية الموريتانية الضغط أكثر على الدول الغربية لرفع منسوب تدفق التمويلات، أم أنها فعلاً تنتمي إيديولوجيا للصف الذي يرفض الرضوخ للإمبريالية العالمية” .

ويؤكد أن سر هذا التحرك الدبلوماسي “هو تعبير من سلطة تفتقر إلى التجربة والخبرة وملزمة وملتزمة – في نفس الوقت- بمواجهة تحديات وضع بات قاب قوسين أو أدنى من حافة الانفجار . سلطة لا مناص لها من أن تكافح لتحقيق أي إنجاز مهما كان ثمنه، لأنها لم تسمح لسابقتها بالتقاط أنفاسها ولأن معارضتها لا تسمح لها بذلك” .

ويستدرك قائلا “هناك البعض الذي يرى أن دبلوماسية الجنرال الجديدة إزاء دول الممانعة هو رفضه لبقاء العلاقات الخارجية الموريتانية ضمن مفهومها التقليدي، أي شأن غير سادي” .

قانون الجنسية

وإذا كانت دبلوماسية الجنرال الخارجية أمراً بات ضمن نطاق الألغاز والأحاجي، فليس ملف الجنسية الموريتانية المثير للجدل ببعيد من ذلك .

فقد كرر وزير الداخلية الموريتاني هذا الأسبوع في زياراته لولايات داخلية القول إن موريتانيا ستواجه مخاطر حقيقية إذا لم تعتمد الحكومة إجراءات صارمة للحفاظ على نظام دقيق للحالة المدنية (الجنسية)، وأن الحكومة تعكف حالياً على إصلاح نظام الحالة المدنية وحمايته من المتلاعبين وممتهني التزوير .

وأوضح أن موريتانيا قررت اعتماد نظام جديد للحالة المدنية لحماية المجتمع من المتلاعبين وكذا لضبط التركيبة السكانية .

وفي هذا الإطار، وعلى ضوء قانون الجنسية الجديد الذي أجازه البرلمان مؤخرا، سيتم تنظيم إحصاء شامل للسكان يستمر عامين، كما سيتم إصدار بطاقة تعريف جديدة غير قابلة للتزوير وبتكلفة ثلاثين مليون أورو .

والتساؤلات التي يطرحها الموريتانيون الآن هي هل سيقوم النظام بسحب الجنسية من عشرات آلاف الأجانب الذين حصلوا عليها عبر التزوير، وكيف سيضمن ألا يكون الإحصاء الجديد مجالاً للتجنيس، كما كان الإحصاء الماضي، وما فائدة مشروع بطاقة تعريف لا تزور مثل الحالية ولكن الوثائق التي تمنح على أساسها تباع بدولار واحد أو أقل . عند “تجار الوراقات” ومسؤولي الحالة المدنية .

وماذا يعني الوزير (النظام) بضبط التركيبة السكانية في ظل مطالب ملحة من البعض بتحديد الملامح الفعلية لهذه التركيبة، خاصة ما يتعلق منها بالتعداد الحقيقي لكل من مكونات الشريحة العربية .

وهل سيقوم النظام الذي مول وأدخل آلاف الأفارقة وجنسهم لإسكات القوميين الأفارقة بسحب الجنسية من بني جلدتهم الذين لم يحملوه تكلفة نقلهم إلى البلاد، يشكل ذلك انشغالاً عميقاً للنخبة الموريتانية .

الخطوط العريضة لتشاورية المعارضة

بدأت قوى المعارضة الموريتانية التحضير للأيام التشاورية التي ستنطلق هذا الشهر، وسط تساؤلات عن الطرح الجديد للمعارضة بعد أن فقدت زخم “رجال الأعمال المعتقلين”، و”عين الرضى” الأوروبية التي استدارت مائة وثمانين درجة وبدأت في كيل “الغزل الحار” للرئيس المنتخب ولد عبد العزيز .

القيادي البارز في تحالف المعارضة المصطفى ولد بدر الدين كشف ل”الخليج” عن ملامح برنامج الأيام التشاورية (المعارضة) ومن أبرزها تناول محور الوضع الاقتصادي المتأزم، وتعرية سياستي مكافحة الفقر ومحاربة الفساد وهما القنديل السحري للرئيس عزيز، وملفات القضاء والحريات العامة، ورفض النظام للحوار مع المعارضة .

وبشكل ما، ستكون هذه الأيام رداً على ما ورد في الأيام التشاورية التي نظمتها الأغلبية الشهر الماضي، لكن من خلالها ستبلور المعارضة مطالب رئيسية لنظام الجنرال على الأرجح أنها ستكون مجالاً جديداً للجدل . وأبرز مآخذ المعارضة هي إقدام الرئيس عزيز على معالجة أحادية لملفات خطيرة وكبيرة من دون الرجوع لإجماع وطني والاكتفاء بالتستر بآراء “الأغلبية التي ليست في واقع الأمر إلا أغلبية أصابع يده التي توقع على تلك القرارات الكبيرة” .

التغيير الوزاري “الوشيك”

اعتاد الشارع الموريتاني على كثرة التعديلات الوزارية ومن مختلف الأنظمة، وفي غياب إحصائية دقيقة يتحدث البعض عن وجود 400 وزير سابق، إلا أن الرئيس ولد عبد العزيز أظهر حتى الآن أنه من أقل الرؤساء حباً للتعديلات الوزارية، ومع ذلك يجري الحديث هذا الأسبوع وبقوة عن “تعديل وزاري وشيك” و”التعديل الوزاري وشيك دائما في بلد كموريتانيا”، كانت فيه التعديلات الوزارية أهم ما يشغل به الرأي العام لكونها تجسد لعبة سلطوية ذات انعكاس كبير على سطح المؤسسة الاجتماعية وعلى النخبة السياسية في البلد .

كانت حكومة الستة أشهر الماضية برئاسة ولد الأغظف مخيبة للآمال، ولم يتمكن 27 وزيراً من أصل 32 وزيراً من تحقيق أداء مقبول، ولا أي من الأهداف المعلنة للسياسات القطاعية، كما أنها حكومة لم ترض عند ميلادها الفيتو القبلي، ولا الجهوي، ولا العرقي، ولا الحزبي، وكانت خيبة الأمل كبيرة لأنها لم تكن “حكومة كفاءات”، بل كانت “حكومة عمال وثائق ومراسيم” .

أعطت هذه الحكومة الانطباع بنهاية “الوزراء الكبار”، وسدت فجوة الأمل في الاستهداء إلى الكفاءات الحقيقية .

أما تساؤلات الشارع والنخبة معاً، فهي حول الحكومة القادمة، وبالضبط حول المعيار الذي سيتبعه الرئيس عزيز في اختيار تشكيلة هذه الحكومة بعد أن ضرب بعرض الحائط كل المعايير السابقة في اختيار الحكومة الحالية . والسؤال الأبرز حول الحكومة القادمة المفترضة هل ستمثل بالفعل الأغلبية الرئاسية أم ستمثل الرئاسة وحدها .

هذه تساؤلات هذا الأسبوع السياسي، والأرجح أن الأسبوع المقبل سيزيدها تناسلاً وتعقيداً، إذ لا مجال للإجابات القطعية في هذا المجتمع السياسي الجميل .


المختار السالم

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button