مقالات

في تأبين الجابري: ماذا أقول بين يدي.. رحيل معلمي../محمد السالك ولد إبراهيم

ماذا أقول بين يدي.. رحيل معلمي..
لا شيء.. غير: “رحم الله.. محمد عابد الجابري.. و أكرم مثواه..”

لكن.. هل حقا رحل هذا المفكر بالغ الموهبة والرصانة ..
كيف أمكن للموت، مهما كانت جسارته، أن يقترب من تلك الروح المتواضعة و المحبة للحقيقة.. والعاشقة للعقلانية؟

في ساحتنا الثقافية العربية كثير من الأشياء مضادة للفكر ومساعدة على الجهل، و على الثقافة السريعة، والأحكام الجاهزة، بينما المعرفة والعلم يتطلبان الرصانة والدقة. إنها مشكلة المثقف و الرأي العام في الساحة الثقافية العربية. إذ غالبا ما يهتم الجمهور و وسائل الإعلام بـ “الفقاعات الثقافية”، و يعلي من شأنها، فيتقدم البعض على أساس أنه مفكر أو خبير، هذا مع العلم أن ذلك كله مجرد موضة، ينتهي صاحبها بانتهائها، فيما يظل الفكر الرصين حاضرا حتى و لو انتقل صاحبه إلى دار البقاء.

الجابري رحمه الله، أحد أبرز المفكرين العمالقة، يلتقي مع الكثير من المفكرين الأخرين في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في الهوس بالتاريخ، فكل من “العروي”، و “أومليل”، و “الخطيبي”، كانت لهم هموم تاريخية، ويجتمع بهم أيضا، في الاهتمام بابن خلدون، كما يلتقي مع العديد من المفكرين المغاربة و المشارقة في الفكر الفلسفي، والاهتمام بالعلوم الإنسانية، وبتاريخ الحضارات والأفكار. إن الاهتمام بهذه الميادين، ترفع المثقف إلى درجة المفكر. و بينما يجعل الاهتمام بالقضايا اليومية من الإنسان رجل ميدان أو رجل سياسة فحسب، يرفعه الاهتمام بتاريخ الأفكار والفلسفة والفنون والآداب واللغة، إلى درجة التنظير و التفكير.

لقد قدر لي.. بكل شرف و اعتزاز.. أن أعرف الراحل.. مفكرا..مميزا .. و مبدعا قديرا.. و مؤلفا حصيفا… على مدى حقبة مهمة من حياته الأكاديمية الجادة .. و الزاخرة بالعطاء و التألق .. و ألإيمان العميق.. و خدمة الفكر … و الحقيقة بدون مواربة و .. بلا ككل..

فقد تعرفت على المرحوم الجابري منذ أكثر من 26 سنة خلت.. عندما كنت طالبا في قسم الباكلوريا” – آداب عصرية بثانوية “أطار”..في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.. حيث كانت مؤلفاته التربوية الرصينة و الميسرة.. نبراسا لنا.. في مادتي الفلسفة و الفكر الإسلامي … مثل: “كتاب الفلسفة” و .. “دروس الفلسفة” .. و “الفلسفة و الفكر الإسلامي”.. الخ…

و قد عرفته بعد ذلك أستاذا زائرا… و محاضرا ألمعيا في جامعة نواكشوط الفتية.. و أنا طالب بقسم الفلسفة.. كنا نعب كتب “المعلم” و نتناقش أفكاره .. و آخر مقالاته يوميا.. بتلهف و اهتمام بالغ.. أيام .. كانت جامعة انواكشوط – بالرغم من حداثة عهدها و هشاشتها المعمارية- أكبر قلعة في البلاد.. للتفكير الحر الخلاق.. و العمل النضالي الوطني..

ثم… احتككت أكثر بالراحل فيما بعد.. أثناء دراستي في كلية الآداب و العلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، في نهاية الثمانينيات، عندما كنت طالبا للدراسات المعمقة في قسم “الإبستمولوجيا” عند “خصمه” الفكري “اللدود” .. أستاذي المفكر و العالم المتبحر و المتصوف الأبرز – أطال الله بقاءه- د. طه عبد الرحمن… أستاذ الأبستمولوجيا و المنطق بشعبة الفلسفة في جامعة محمد الخامس، و أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين في العالم الإسلامي منذ بداية سبعينيات القرن الماضي.

لقد أمضى الجابري -رحمه الله- حياةً حافلة بالدراسة والتأليف، و بنشاط سياسي وأكاديمي وفكري هائل و متميز. ألف الراحل ما يربو على 100 كتاب، وعددا لا يحصى من المقالات الفكرية الرصينة. كان من أهم كتبه (العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي) 1971، (نحن والتراث) 1980، (إشكاليات الفكر العربي) 1986، (المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل، ونكبة ابن رشد)1995، (نقد العقل العربي، 4 أجزاء)1982-2001، (في نقد الحاجة إلى الإصلاح) 2005، (مدخل إلى القرآن الكريم) 2006- 2010.

لا حول و لا قوة إلا بالله.. كل نفس ذائقة الموت.. حقا .. لقد كان صاحب هذا العقل الراجح و هذه الكتابة المتألقة.. جديرا بأن يعيش إلى الأبد، فالناس بحاجة دائمة إليه.. و إلى علمه المستفيض..

لقد أتى الجابري في المرحلة الثالثة من تعامل المسلمين والعرب مع تراثهم، فالمرحلة الأولى هي مرحلة المقاربة بالإصلاح والنهضة، والتساؤل عن أسباب تأخر المسلمين، التي انطلقت ابتداء في القرن السابع عشر، وفي القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت أجوبة عدة مفكرين حول طريقة الإصلاح، والوحدة العربية والإسلامية، ثم جاءت بعد ذلك، مرحلة الثانية الرجوع إلى هذا التراث عن طريق توثيقه وتحقيقه وإخراجه ونشره، وهذه كان المشرق سباقا فيها، لأسباب متعددة.. أما المرحلة الثالثة.. هي مرحلة الدراسة والبحث، وهنا يدخل مجموعة من المفكرين مثل: محمد أركون، وعلي أومليل، والطيب تيزيني، هناك من درسوا للتعريف، وهناك من درسوا لبحث في أطروحة، وتخصصوا في مفكر أو مفهوم، ولكن الجابري أتى لإنضاج هذه المرحلة، بتقديمه لمشروع كيفية التعامل مع التراث، وهذه هي المسألة القوية في مشروع الجابري الفكري.

هذا الفكر المتقد و هذا القلم المبدع السابح في أعمق أعماق النفس البشرية و مكامن الفكر الإنساني.. الذي نقرأ لصاحبه.. و نستمتع بحروفه الدافئة وألق رؤاه المتبصرة.. ما كان للموت أن يمر بباب بيته و أن تفارقنا روحه الملهمة .. و لكن.. الله قدر…

أي حزن قد انقض على روحي و كاد أن يقتلعها وأنا أقرأ الفصول الأخيرة من كتابه الكبير و الهام “مدخل إلى القرآن الكريم” .. عندما تناقلت وكالات الأنباء الدولية خبر رحيله عن هذا العالم. و قد كان هذا العمل الذي أنجزه حول فهم وتفسير القرآن الكريم مشروعه الفكري الأخير الذي أراد من خلال أجزائه المختلفة أن يعرف بالقرآن الكريم تعريفاً “ينأى به عن التوظيف الأيدلوجي والاستغلال الدعوي الظرفي من جهة، و يفتح أعين الكثيرين على الفضاء القرآني كنص محوري مؤسس لعالم جديد كان ملتقى لحضارات وثقافات شديدة التنوع..” وهو مشروع صرح الجابري بأنه أراده كمشروع العمر بالنسبة له.

يتساءل الجابري في كتابه “فهم القرآن الحكيم”: هل يصح القول – باسم القرآن- : “الدنيا من أجل الآخرة”: من أجل الدخول إلى الجنة، أو المصير إلى النار، كما درج على القول بذلك كثير الناس، (علماء و عامة)، في جميع العصور التي تلت عصر النبوة و الخلفاء الراشدين؟! أم أن الأمر بالعكس من ذلك تماما، و هو أن الآخرة، أعني الجنة و النار، هما من أجل الدنيا، من أجل أن يسود فيها العدل، و التسامح، و السلام، و التواصي بالصبر و الرحمة، و الدفع بالتي هي أحسن…!!”

الحصيلة الغنية لمشروع الجابري الفكري العملاق تحتم بالضرورة بروز أنصارا و معارضين.. لكن.. ما هو غير مقبول هو التطرف والتهجم المجاني على شخص الراحل. للأسف الكثير من الباحثين لا يؤمنون بأهمية المناهج و لو اختلفت النتائج. كل ما توصل إليه الجابري كان يقبل النقاش فيه. و الدليل على ذلك أنه هو نفسه كان يعيد تنقيح كتاباته، فكتاب “نحن والتراث” الذي طبع عشر مرات، تجد في كل طبعة منه أشياء جديدة وأخرى منقحة، لأن الجابري لم يكن راضيا تماما عما كتبه. النتائج التي توصل إليها الجابري تحتمل النقاش، لكن ما هو عبقري عند الجابري هو النضج المنهجي .. فطريقته في الاشتغال والمراجعة والعودة إلى النصوص، يمثل فيها الجابري خير نموذج للبحث العلمي.

قوة الأستاذ الجابري في قدرته اللامتناهيىة على فتح مجالات التفكير و المنهج، أما النتائج، قد يحصل عليها اتفاق أو اختلاف أو على جزء منها. ثم أن الجابري كان يكتب بغزارة، و هكذا.. فلا بد أن يتقبله البعض بالقبول والبعض الآخر بالرفض، لكن الجابري لا يكتفي بإعلان رفضه كما يفعل البعض، لكنه.. كان دائما يعلل عدم موافقته، ولم يصل قط إلى رفض أي مشروع، بل يدخل في نقاش معه.

أي أسف على من كان مثل هذا الرجل المدعوم بالمنح الإلهية كي يجعل محبة الحقيقة المطلقة.. و مكابدة البحث الدائب عنها و توصيلها.. تستحق أن نعيش من أجلها فكريا و.. وجدانيا.. و إنسانيا.. أي تعاسة قد أصابتني – و لا شك أنها أصابت الملايين غيرى- لرحيل هذا الطود العقلاني الشامخ.. و المظفر..

لا سبيل الآن- بعد أن تخطفه الموت من بين أيدينا – إلا أن نسأل الله العلى القدير أن يشمله بواسع رحمته و عظيم مغفرته.. و لأهله و ذويه.. و محبيه.. و للمغرب الحبيب ..و للفضاء المغاربي عموما و لديار العروبة و الإسلام.. كلها ..الصبر و السلوان و خالص العزاء، وحفظ الله كل من بقي على الدرب النبيل من الموهوبين والشرفاء.. من أمثال الجابري..

أيا معلمي،
ألا أيّها الحب مرتحلا..
زمانَ القفْرِ والأشواكِ
هب لي وطنا يوسّدكَ النّمارقْ..
*****
وكنزُكَ
ذلكَ القلبُ النبيلُ
يجودُ مبتهجاً بأنسامِ الحقيقة
للعارفين..
فلا تُرى فيه الفوارقْ!..
*****
وشذى ُمدادك فاقَ الرّوضَ طيباً
فاكتستْ بالأُرجوانِ الشّقائقْ!
ليسَ ينُثُّ أمطاراً
ولكنْ
يفرشُ الدربَ نثاراً من زنابقْ..
*****
يقول الإمام بديع الزمان النورسي في “رسائل النور”: “الموت ليس إعداما نهائياً، وليس فراقاً أبدياً، وإنما مقدمة وتمهيد للحياة الأبدية، وبدايةً لها. وهو إنهاء لأعباء مهمة الحياة ووظائفها، ورخصة منها وراحة وإعفاء. وهو تبديل مكان بمكان، وهو وصال ولقاء مع قافلة الأحباب الذين ارتحلوا إلى عالم البرزخ… هكذا، بمثل هذه الحقائق شاهدت وجه الموت المليح الصبوح، فلا غرو أنّي لم أنظر إليه خائفاً وجلاً، وإنما نظرت إليه بشيء من الاشتياق…”

فنم.. قرير العين.. يا معلمي..
و لك من أرض “شنقيط “.. المنارة و الرباط.. أزكي سلام..

رحم الله أستاذنا الجابري.. و أكرم مثواه..
و إنا لله.. و إنا إليه راجعون..

* محمد السالك ولد إبراهيم
باحث و خبير استشاري
medsaleck@gmail.com

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button