أزمة الدولة فى أفريقيا (دراسة حديثة)
أنباء انفو- “أزمة الدولة فى أفريقيا” عنوان دراسة حديثة نشرتها الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والإسترتيجية.
الدراسة التى تعيد “أنباء انفو” نشرها ، لاتنطبق- كما تشير – على دول أفريقية هي “المغرب ، الجزائر ، ، تونس ، مصر ، ليبيا” ومجموعة دول جنوب افريقيا .
الدراسة:
تمر الدولة فى أفريقيا بأزمة عميقة ومتزايدة الحدة، تشمل كافة أبنيتها ومؤسساتها، السياسية منها والمدنية، وتلقى بآثارها السلبية ليس فقط على حسن أدائها لوظائفها وعلى قاعدة شرعيتها، وإنما على حقيقة وجودها فى حد ذاته، إذ تثور التساؤلات عما إذا كانت الدولة فى أفريقيا ـ حقيقة ـ كمؤسسة اجتماعية سياسية أم وهما مؤسسيا منبت الصلة بالواقع الاجتماعى الذى يجد لنفسه تعبيرات أخرى وفقا لظروفه ومؤسساته الخاصة ومن ابرز مظاهر هذه الأزمة:
– المعارضة المتزايدة التى تبديها الشعوب فى العديد من الدول الإفريقية لنظم الحكم السائدة فيها والتى ارتبط وجودها بوجود الدولة ذاتها، واتضاح فشل هذه الدول فى تأطير الشعوب الواقعة فى إقليمها والتفاعل الإيجابى معها فى سياق تطورى وبالتالى فان حركة الاحتجاج الشعبى ـ والتى تأخذ أشكالا عدة ابتداء من المظاهرات العنيفة وانتهاء بالسلبية والانسحاب الكامل من نطاق الدولة ـ تضع الدولة كلها موضع الشك وليس فقط الأشخاص الحاكمين.
ـ تزايد اتضاح فشل الدولة الإفريقية فى الاضطلاع بالوظائف الأساسية التى حددتها لتقسها عند الاستقلال والتى انبنت عليها دعايتها وشرعيتها طوال فترة وجودها وأهم هذه الوظائف قيادة عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية أن المستوى المتدنى والذى يزداد تدنيا لاقتصاديات الدول الأفريقية، ومعدلات النمو الهزيلة والسالبة، واستفحال التخلف الاجتماعى لا يمكن تفسيره فقط فى ضوء التغير فى النظام الاقتصادى الدولى أو مقولات التبادل اللامتكافئ، وإنما أصبح من الواضح أن العيوب اللصيقة بالدولة نفسها تشارك بجانب هام فى ذلك أن لم تكن تضطلع بالجانب الأكبر من المستولية.
ـ تزايد تعرضيه الدولة الإفريقية، وتضاؤل سيطرتها على التطورات الداخلية بها برغم تكثف مؤسساتها، وترسخ أنماط التبعية للخارج، بحيث تحولت الدولة فى كثير من الأحيان إلى وسيط بين الداخل والخارج اكثر منها فاعلا إيجابيا هذه المظاهر، وغيرها، تستدعى تحليلا متأنيا بهدف تشريح مظاهر الأزمة:
ارتباطاتها، واتجاهاتها، وميكانزماتها، وذلك سعيا للتوصل إلى فهم وظيفى وديناميكى للدولة فى أفريقيا وللأزمة التى تعتريها ومحاولة استشراف مستقبلها ومن ثم فاد المنهج الذى لجأت إليه هذه الدراسة هو منهج وظيفى بالأساس، يعتمد ليس على دراسة مؤسسات بعينها ـ كالأحزاب أو الوزارات أو التنظيمات ـ وإنما على اختبار أداء وتحقيق عدد معين من الوظائف يفترض أنها أساسية لحسن سير الدولة بشكل عام هذا الاختيار يستند للاعتبارات التالية:
1 ـ أن مؤسسات الدولة الإفريقية تتسم بالشكلية، إذ لا علاقة بين اختصاصاتها المنصوص عليها فى الدساتير واللوائح المنظمة لها وبين اختصاصاتها الفعلية، ولا علاقة أيضا بين الوظائف المنوطة بها رسميا والوظائف الحقيقية التى تضطلع بها، ومن ثم فان فحص هذه الدساتير واللوائح لا يعين كثيرا فى فهم العملية السياسية والإدارية.
2 ـ من ناحية أخرى تتسم المؤسسات بالانتقالية وسرعة التغيير مما يصعب معه متابعتها لفترات طويلة وتقل معه الفائدة من ذلك.
3 ـ تتسم هذه المؤسسات بأنها مستوردة وبالتالى لا تعبر كل حقيقة اجتماعية أو سياسية محددة (عكس الأمر فى البلدان التى نشأت فيها) ومن ثم لا تفيد دراستها فى فهم الظاهرة.
4 ـ إن التحليل انطلاقا من الوظائف يعيننا على تقييم كفاءة المؤسسات بشكل كلى (على مستوى الدولة)، وإصدار أحكام على مدى ملاءمة أداء الدولة بمؤسساتها ككل، وهو مالأ تتيحه النظرة الجزئية البادئة من المؤسسات.
5 ـ أن التحليل ابتداء من الوظائف يمكننا من التعميم والمقارنة على مستوى القارة ككل وبين عدد من الدول المختلفة من حيث الثقافة السياسية والتنظيمية وفى هذا السياق يعتبر تحديد الوظائف محل الاختبار هو مفتاح سلامة التحليل ككل، والأحكام المشتقة منه ودون الدخول فى الجدال الدائر حول ـ وظائف الدولة، فقد تبنت هذه الدراسة معيارين لاختيار الوظائف التى يتم اختبارها:
– المعيار الأول هو أن تكون الدولة قد أعلنت عن نيتها فى ـ وشرعت فعليا فى ـ الاضطلاع بوظيفة ما، وذلك سواء كانت هذه الوظيفة من وظائف الدولة ـ فى الكتابات المعيارية أم لا.
ـ المعيار الثانى هو أن تكون الوظيفة محل الاختبار يلزم الاضطلاع بها لبقاء الدولة وتطورها دون تهديد أو انقطاع لوجودها ويدخل فى ذلك مجموعة الوظائف المتعلقة بالنظام السياسى وبالأمن القومى (1).
وتقصد هذه الدراسة بالدول الأفريقية تلك الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، وذلك باعتبارها تملك من الخصائص ما يؤهلها لاعتبارها وحدة تحليل متميزة عن بقية بلدان القارة، وبالتالى فإنها تستبعد بلدان الشمال الأفريقى الخمسة (مصر وليبيا وتونس والجزائر والمملكة المغربية) كما تستبعد أيضا اتحاد جنوب أفريقيا ولواحقه وليعت الدراسة ـ سجلا ـ بحالة كل بلد على حدة وإنما شمعى لتحديد السمات العامة للظاهرة فى كل الدول محل البحث مع استخدام بعض الأمثلة المحددة من بعض البلدان فى الحالات التى يشكل فيها ذلك إبراز للسمة أو استثناء لها وهو الأمر الذى يوقع الدراسة فى نهاية الأمر تحت طائلة كل العيوب التى تترتب على عملية التعميم، وتستلزم نفس المحاذير الواجب اتخاذها عند تناول الأحكام الواردة بها، وذلك بالنظر إلى التنوع الكبير فى أوضاع هذه الدول، والى الاختلافات بين الدول التى خضعت لاستعمار فرنسى عن تلك التى خضعت لاستعمار بريطانى، وبرتغالى وأسبانى، وبين تلك النى تضم جاليات بيضاء كبيرة عن تلك التى تتسم إلى حد ما بالتجانس العنصرى، وفى درجة النمو التى كانت طيه قبل خضوعها للاستعمار، وفى تلك التى حققته بعد الاستقلال الخ وتتقسم الدراسة إلى ثلاثة أجزاء رئيسية:
– يتناول الجزء الأول اختبار مدى كفاءة الدولة الإفريقية فى الاضطلاع بوظائفها الأساسية، ويشمل ذلك:
الوظائف المتعلقة بقيادة التنمية الاقتصادية.
– الوظائف المتعلقة بالتنمية الاجتماعية.
ـ الوظائف المتعلقة بالنظام السياسى.
ـ يتناول الجزء الثانى تحليل جذور وأسباب تدنى أداء،الدولة الإفريقية.
ـ ويتناول الجزء الثالث نقد الدولة فى أفريقيا الجزء الأول:
أداء الدولة الأفريقية:
عند استقلال الدول الأفريقية، أعلنت النخب الحاكمة الجديدة عن أهداف رئيسية يتعين على الدولة الاضطلاع بتحقيقها بالإضافة لوظائف الدولة التقليدية، وهى أهداف تتعلق فى مجملها بعملية التنمية، بشقيهما الاقتصادى والاجتماعى، والتى اعتبرت المبرر الرئيسى للاستقلال عن المستعمر الموصوف باستنزاف ثروات الشعوب الإفريقية وإبقائها دون حد الكفاف والتخلف وكانت النظرة للدولة آنذاك باعتبارها ـ المحرر ـ وقائد عملية التنمية بلا منازع، بالإضافة إلى دورها فى أداء الوظائف النى تؤديها الدول فى العالم الأوروبى (2).
وسوف يتناول هذا الجزء تباعا اختبار مدى كفاءة الدولة ـ عبر ثلاثين عاما من الاستقلال ـ فى أدائها لمجمل هذه الوظائف.
أولا: الوظائف المتعلقة بالتنمية الاقتصادية:
تضمن تطوع الدولة الإفريقية للاضطلاع بوظيفة قيادة عملية التنمية الاقتصادية القيام بتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية بم رفع وتحسين مستوى المعيشة للسكان الأفارقة، تنمية الاقتصاد الوطنى وتحقيق الاستغلال الأمثل لطاقاته المعطلة، إنهاء التبعية لأوروبا والتى تشكل علاقة استغلالية من جانب الأخيرة لثروات أفريقيا ولتحقيق هذه الأهداف تبنت الدول الأفريقية استراتيجيات متباينة، تراوحت بين التخطيط المركزى تحت شعارات مشتقة بصورة أو بأخرى من الأيديولوجيات الماركسية (مثل غانا، بينين، والنيجر)، وبين تبنى نظم ليبرالية كاملة منسوخة من النظم الغرب ـ أوروبية (مثل كينيا، السنغال، والجابون) ألا أنه فى جميع الأحوال، اشتركت هذه الدول جميعها فى اضطلاع الدولة بدور بارز فى التخطيط للتنمية وإدارة الاقتصاد وذلك على أساس أن الدولة هى التى تستطيع القيام الاستثمارات اللازمة لدفع التنمية وأنها الحكم الرشيد فى إعادة التوزيع بين المجموعات الاجتماعية والقبلية، وأنها هى النى تملك باسم المجتمع تحديد أولويات التنمية الاقتصادية، وأنه إذا كانت ـ الأمة ـ مازلت فى طور التشكل قان الدولة حقيقة قائمة وهى التى تقود عملية التشكل وتحدد مسارها ومن ثم ظهر إلى الوجود مفهوم جديد للدولة يتخطى مفاهيم الدولة الحارسة بل ودولة الرفاهية وهو مفهوم الدولة ـ قائدة التنمية (3).
وبعد حوالى ثلاثين عاما من الاستقلال ومن تنفيذ هذه الاستراتيجية، يكشف اختبار أداء الدولة لهذه الوظيفة التى تطوعت لأدائها، عن مدى الفشل الوظيفى الذى عانت وتعانى منه مؤسسات الدولة الإفريقية.
1 ـ رفع مستوى المعيشة:
لا يتجاوز متوسط الدخل فى 27 دولة أفريقية 500 دولار فى العام، منها 11 دولة لا يتجاوز فيها 250 دولارا، ولا يتجاوز حاجز الألف دولار إلا فى دولة واحدة (الجابون)، تبتلع فيها معدلات التضخم معظم القوة الشرائية من المواطن وإذا كان معيار متوسط الدخل فى حد ذاته لا يوضح لنا مدى كفاءة أداء الدولة، فان قياس تطوره عبر فترة طويلة يمكن أن يؤدى هذا الغرض إن نظرة سريعة لمعدلات نمو متوسط الدخل فى الفترة من 1965 ـ 1989 (جدول رقم 1) تشى بدرجة التدنى الذى يصم أداء الدولة:
– ففى 13 دولة أفريقية (تضم ثلث سكان القارة) انخفض متوسط الدخل الحالى عما كان عليه أثناء الاستعمار، وتراوح معدل ـ النمو ـ فى متوسطات الدخل بين ـ 1% و ـ 2% سنويا.
– ولم يتخط معدل النمو 1% فى 6 دول، و 2% فى 6 دول أخرى، كما لم يتخط 3.6% فى أى دولة على الإطلاق.
– وبالإضافة إلى التدنى المستمر فى متوسطات الدخل، فإن الفروق الهائلة فى التوزيع بين قطاعات الشعب (والتى لا يتوافر عنها بيانات موثوق بها) ومعدلات التضخم النى تبلغ أرقاما قياسية تصل إلى 10.8% فى بعض الحالات (أوغندة)، وكون البيانات المتوفرة تتناول ـ متوسطات ـ وليس إحصاء لحالات، يعدل من قيمتها الاختلاف الشاسع بين المناطق الحضرية والمناطق الأخرى (الغابات ـ الصحارى الخ)، تزيد من حدة تدنى مستويات المعيشة للفرد الإفريقى.
2 ـ دفع الاقتصاد الوطنى:
الصناعة: شهدت الصناعة دفعة قوية عند الاستقلال، ونظر إليها من قبل الدولة باعتبارها مظهر ومضمون التقدم الاقتصادى فبلغ متوسط نمو القطاع الصناعى فى أفريقيا ككل 8% سنويا طوال حقبة الستينات، ألا أن المعدل انخفض إلى 3.5% حتى عام 1987، بل وشهد نموا سالبا فى الفترة من 1980 ـ 1989 فى 6 دول أفريقية (5).
وفى كل الأحوال فان نمو الاستثمارات فى القطاع الصناعى لم يصحبه نمو مماثل فى نصيب القطاع الصناعى فى الناتج القومى الإجمالى إذ ظل لا يسهم بأكثر من 10% من هذا الناتج، كما لم ينعكس على نمط تجارتها الخارجية والذى يتسم التركيز الشديد على عدد محدود جدا من المواد الخام.
ـ الزراعة:
لم يتجاوز معدل نمو الناتج الزراعى فى القارة ككل 2.7% فى الفترة من 1960 ـ 1970، ثم انخفض إلى 1.4% فى الفترة من 1970 ـ 1985، فى حين تدنى إلى ما بين ـ 4% إلى ـ 3.4% فى أربع دول (موريتانيا والنيجر وإثيوبيا ورواندا).
وقد انعكس ذ لك فى شكل اعتمادية متزايدة على الخارج لسد احتياجات القارة من الغذاء سواء كانت مساعدات أو منحا أو قروضا وفى شكل حالات المجاعات الواسعة النطاق والتى اتخذت شكلا دوريا فى عدد من الدول (إثيوبيا ـ دول الساحل ـ موزمبيق الخ) (6).
ـ التعدين:
على عكس المتوقع، فان النموفى الناتج التعدينى لم يتجاوز 1.7% سنويا فى الفترة من 1965 ـ 1987 على مستوى القارة وبشكل أجمالى، فإن الناتج القومى الإجمالى فى الدول الإفريقية جميعها (45 دولة) والتى يبلغ عدد سكانها 450 مليون نسمة يبلغ 134 مليار دولار، أى ما يعادل الناتج القومى لبلجيكا وحدها (10 مليون نسمه)، أو ما يعادل 63% من الناتج القومى لكوريا الجنوبية،،والقياس على كوريا أقرب باعتبار أنها بدأت من مستويات مقاربة للمستوى الإفريقى ولكنها تميزت بمعدلات عالية للأداء (7% معدل سنوى للنمو).
3 ـ إنهاء التبعية لأوروبا:
مازالت الدول الإفريقية حتى الآن معتمدة اعتمادا عضويا على إحدى الدول الأوروبية على الأقل، فبالإضافة إلى الاعتمادية الثقافية والتقنية، والتى لها ما يفسرها فى تاريخ العلاقات بين الجانبين، فإن الذى تعنى به هذه الدراسة هو استمرار ـ بل ونمو ـ لاعتما دية الاقتصادية خلال سنوات الاستقلال وقد تبنت الدراسة مؤشرين لقياس هذه الاعتمادية وهما حجم المساعدات الرسمية للتنمية التى تتلقاها الدولة الإفريقية سنويا (APD) وحجم ديونها الخارجية.
أ ـ المساعدات:
بالرغم من أن الفكرة الرئيسية النى كانت تكمن خلف مبدأ المساعدات الرسمية للتنمية هى إتاحة الفرصة للدول الإفريقية لدفع عملية التنمية لتعويض التخلف النسبى فى مستوياتها التقنية والاقتصادية تمهيدا للاستغناء التدريجى عن هذه المساعدات، فإن الواقع، يشهد بحدوث عكس ذلك ففى الفترة من 1983 ـ 1989 شهدت المساعدات الرسمية للتنمية زيادة بنسبة لا تقل عن 110% فى أى حالة، وتخطت 490% فى 4 حالات، وبلغت الزيادة نسبة 706% فى حالة نيجيريا، كما زادت عن 200% فى 17 دولة (7).
وأصبحت هذه المساعدات تشكل جزءا هاما من موارد الدولة الإفريقية، وتزداد أهميتها بالنظر إلى عدم استقرار الموارد الأخرى للدولة نتيجة لظروفها الاقتصادية، إذ يبلغ إسهام هذه المساعدات فى الناتج القومى الإجمالى أكثر من 10% فى معظم الدول (أى أكثر من إسهام القطاع الصناعى كله)، ويصل إلى 32%، 39%، 59% فى تنزانيا والصومال وموزمبيق على التوالى (لعام 1989) (8).
ب ـ الديون:
تشكل الديون مؤشرا أخر على تبعية الدولة الإفريقية وذلك من ناحيتين:ـ الأولى هى حجم هذه الديون مقارنة بالناتج القومى للدولة، والثانية هى تطور المديونية بالزيادة أو النقصان مما يشى باستمرار أو تناقص التبعية ومن الناحية الأولى، بلغ حجم الديون فى الدول الإفريقية نسبا ذات مغزى واضح، فباستثناء 5 دول (تشاد، أوغندا، الكاميرون رواندا، بوركينافاسو) فإن كل الدول الإفريقية مدينة بما يزيد عن 55% من ناتجها القومى الإجمالى، منها 12 دولة مدينة بما يفوق 100% من هذا الناتج، وتتخطى النسبة 200% فى ثلاث حالات (الصومال وموريتانيا والكونغو) لتصل إلى 427% تقريبا فى حالة موزمبيق (9).
من ناحية أخرى، فإن تزايد المديونية هو السمة الرئيسية السائدة، ففى عام 1980 لم يكن هناك سوى دولتان مدينتان بما يزيد عن ناتجهما القومى الإجمالى (الصومال وموريتانيا)، و4 دول تتجاوز النسبة فيها 55% بما يؤكد أن تزايد التبعية للخارج هو الاتجاه العام.
من هذا العرض، يتضح أن الدولة قد فشلت فى الوفاء بالتزاماتها بتحقيق غايات التنمية الاقتصادية، ولم تؤد كل السياسات الاقتصادية التى اتبعتها يمينا أو يسارا إلى نتائج إيجابية، وفشلت مؤسساتها فى أداء الوظائف التى أنيطت بها بل وكانت أحيانا معوقة لنشاطات مصدرها المجتمع، وسواء كان هذا الفشل راجعا إلى الفشل الوظيفى لمؤسسات الدولة المناط بها أداء هذه الوظائف أو إلى تدهور وضع الدول الإفريقية فى النظام الاقتصادى الدولى لأسباب خارجية، فإن النتيجة واحدة: وهى انخفاض قدرة الدولة على تحقيق التزاماتها، فإذا ما أضفنا إلى ذلك أن الدولة قد احتكرت لنفسها، بنفسها، دور فى قيادة التنمية، وسخرت من اجل تحقيق ذلك كل ما أمكنها تسخيره من طاقات المجتمعات التى تسيطر عليها، واستباحت لمؤسساتها ما لم تستبيحه الدول الأخرى تحت راية التنمية، واحتكرت حق اختيار السياسات الاقتصادية، فإن هذه الدولة نفسها لا تستطيع أن تحل نفسها أمام مجتمعاتها من مسئولية الفشل الواضح الذى أسفرت عنه جهودها، وهو ما جعل هذه المجتمعات تحمل دولها يشكل أو بآخر مسئوليته، وتبدى ذلك فى شكل مباشر هو الاحتجاج الشعبى على الدولة، وفى شكل آخر هو نمو القطاع غير الرسمى من الاقتصاد، والذى يعد أحد الردود المجتمعية على الدور السلبى لأجهزة الدولة فى إدارة النشاط الاقتصادى (10) جدول (2).
ثانيا: الوظائف المتعلقة بالتنمية الاجتماعية:
وتشمل هذه الوظائف:
التعليم، القضاء، والصحة.
1 ـ التعليم:
شكل التعليم أحد المحاور الرئيسية فى استراتيجية الدولة الإفريقية للتنمية الاجتماعية، حيث نظرت النخب الحاكمة للتعليم باعتباره السبيل لتحقيق ثلاثة أهداف:
تحويل المجتمع إلى مجتمع أكثر تحضرا وعصرية، والقضاء على جذور التخلف واستئصال البدائية، ومن ثم تحقيق نقلة نوعية للمجتمع ككل تدخله فى مصاف المجتمعات المتقدمة.
ـ كسر الروابط التقليدية السائدة فى المجتمع الإفريقى، فى القرية وفى القبيلة وفى المجتمعات النائية، وإحلال روابط ـ عقلانية (11) محلها، باعتبار أن الأولى تضع قيودا على نمو الطاقات الفردية، وتشكل مظهرا من مظاهر التخلف، وتعوق التنمية بصفة عامة.
ـ تكوين طبقة وسطى متزايدة الحجم والأهمية من أبناء التعليم الحديث، تضم الموظفين والتجار والمهنيين المؤهلين والكادرات العليا والمثقفين، تضطلع بقيادة عملية التنمية وتشكل عماد المجتمع الحديث وتتجلى هذه الاستراتيجية فى أوضح صورها فى حالة كوت ديفوار، حيث قدرت النخبة الحاكمة بقيادة ـ هوفوية بوانييه ـ أن التعليم هو السبيل الوحيد لتحقيق هذه الأهداف فى أقصر فترة زمنية ممكنة، ومن ثم اعتمدت الدولة مبالغ طائلة للاتفاق على التعليم وتوسعت فى استقدام المعلمين الفرنسيين ليس فقط للأشراف على العملية التعليمية ولكن للقيام بالتدريس نفسه وعل نطاق واسع، وذلك على أساس أن هذا الأسلوب سيؤدى لخلقجيل جديد فى نفس المستوى الفرنسى، وتحملت الدولة لقاء ذلك مبالغ طائلة (إذ أن راتب المدرس الفرنسى كان ثلاثة أضعاف ما يتقاضاه فى فرنسا) بالإضافة إلى المساهمة التى كان يؤديها ـ المعاونون (12).
فى نفس الصدد وبصفة عامة لم يقل الإنفاق الحكومى على التعليم فى أى دولة أفريقية عن 20 % من الناتج القومى الإجمالى (13).
إلا أن هذه السياسات قد فشلت فى تحقيق الأهداف المرجوة منها، وبعد ثلاثين عاما من تنفيذها تكشف البيانات الخاصة بالحالة التعليمية فى الدول الإفريقية كل عمق هذا الفشل من حيث القصور فى الأداء، والتضارب بين الأهداف المعلنة والنتائج المحققة.
أ ـ القصور فى الأداء:
من الناحية العددية (14) لم تؤد السياسات المتبعة من قبل الدولة المستقلة إلى إحداث طفرة فى إعداد الملتحقين بالتعليم من الشرائح العمرية المقابلة ويجب هنا الإشارة إلى الفارق المنهجى بين القياس استنادا إلى الأرقام المطلقة للمتعلمين (والتى قد تشير إلى وجود زيادة كبيرة) وبين القياس استنادا إلى نسبة الملتحقين بالنظام التعليمى من أبناء الشريحة العمرية المقابلة للمرحلة محل البحث، والأخيرة أدق فى الدلالة وأقل تضليلا للباحث إذ أنها تتعلق بقياس كفاءة السياسة التعليمية.
1 ـ ففى التعليم الابتدائى، لم تتجاوز الزيادة فى نسبة الأطفال الملتحقين بالتعليم بين بهامى 1965 و1988 عن 50% فى أى دولة أفريقية، وكانت أقل من 25% فى15 دولة، بل وشهدت مالى وغينيا انخفاضا فى هذه النسبة عن عام 1965، بالإضافة إلى 5 دول لم يعد يتوفر بهم بيانات أساسا عن أعداد الملتحقين بالتعليم الابتدائى.
2 ـ وفى التعليم الثانوى، لا تتجاوز نسبة الملتحقين به من الشباب الواقعين فى الشريحة العمرية المقابلة 35% فى 24 دولة أفريقية (بيانات عام 1988)، كذلك فإن الزيادة فى نسبة الملتحقين مقارنة بعام 1965 لا تتجاوز 10% فى 14 دولة، ولا تتخطى ـ 30% فى أى دولة على الإطلاق (باستثناء زيمبابوى 55%).
3 ـ وفى التعليم العالى لا تتخطى الزيادة فى نسبة أعداد الملتحقين به عام 1988 عن تلك السائدة عام 1965 3% فى أى دولة سوى فى حالتين:ـ زيمبابوى 4%، والكونغو 7 %.
ومن الناحية الكيفية، فإن مستوى الجريحين، خاصة فى المجالات التطبيقية، ظل بصفة عامة منخفضا مقارنة بالمستويات التى كانت السياسات التعليمية تطمح لتحقيقها، وظلت الحاجة إلى استيراد الكادرات الفنية والإدارية من الخارج مستمرة بل ومتنامية وهو ما يثبته التزايد المستمر فى أعداد ـ المعاونين ـ الذين توفدهم الدول الأوربية فى إطار برامج ـ المساعدة الفنية (15).
التى تقدمها لأفريقيا، وظل الانخراط فى الجامعات الأوربية معيارا هاما لضمان حسن المستوى الفتى للكادر الأفريقى وهو ما يظهره حرص النخب الإفريقية الحاكمة على إرسال أبنائها للتعلم بالمؤسسات التعليمية الغربية (16).
ومن الناحية القطاعية، أدت العشوائية التى تم بها تخطيط وتنفيذ السياسات التعليمية إلى اختلال واضح بين ـ أنواع ـ المتعلمين وبين الاحتياجات الفعلية لهياكل الدولة والاقتصاد وهو ما انعكس بالسلب على النظام التعليمى نفسه وعلى علاقته بالمجتمع وعلى هياكل الدولة والاقتصاد.
ب ـ التضارب بين الأهداف والنتائج:
أفرزت المؤسسات التعليمية القائمة، خريجين غير قادرين على العودة والانخراط من جديد فى المجتمع؟ التقليدى الذى أتوا منه، وغير قادرين فى الوقت نفسه فى على التفاعل معه بهدف تعبئته وتحويله، وأصبحت ـ الازدواجية الثقافية والانفصال والتعالى مصطلحات شائعة فى وصف مجتمع المتعلمين فى المجتمعات الإفريقية والذين شكلوا أرستقراطية مبنية على معرفتهم للكتابة وفهمهم لكيفية التعامل مع ـ الأوراق (المقصود هو الأوراق الرسمية) والتى كان التعامل بها ميزة يحتكرها الرجل الأبيض إن التوسع النسبى فى التعليم ـ بالأسلوب والمضمون الذى تم به ـ لم يؤد إلى إدخال متغيرات تنموية وتطويرية فى النسيج الاجتماعى بقدر ما أدى إلى خلخلته واضطرابه، واصبح فى إرسال الأطفال إلى المدرسة، من وجهة نظر عائلاتهم، إرسالا لهم فى طريق بلا عودة (17).
من ناحية أخرى فان العشوائية التى اتسم بها أداء المؤسسات التعليمية وتلك التى تتولى التخطيط لها، قد حالت دون تكون طبقة متوسطة متزايدة العدد والأهمية مثلما كان مأمولا بل إلى نشوء طبقه حضرية مشتتة (18)، هروبية أما للخارج ـ وهو الأغلب ـ أو لاقتناص فرصة للتكسب من فوضى مؤسسات الدولة ويرجع ذلك أيضا ـ جزئيا ـ إلى السياسات النى اتبعتها الدولة إزاء هذه الطبقة، وخاصة سياسات التوظيف، والتى اتسمت بالحذر الشديد من تطلعاتها السياسية، وأدت إلى الحيلولة دون اندماجها فى مؤسسات الدولة اندماجا خلاقا وتطويريا، وإنما وضعتها بين خيارين:
إما الانخراط فى مؤسسات الدولة ـ وفى الاقتصاد وفقا لأسلوب واليات عملهم السائدة، وإما الخروج عن طاعة الدولة و التصرف ـ سواء بالانسحاب أو الهروب أو التحدى.
وقد فاقم من الآثار السلبية لتردى أداء الدولة فى مجال التعليم، إنها كانت قد احتكرت لنفسها الدور الرئيسى، والوحيد فى بعض البلدان، فى التخطيط للعملية التعليمية، وتنفيذ ومراقبة سيرها، وبذلك أضعفت إلى درجة كبيرة، أو استبعدت الفاعلين الأخر مثل البعثات الدينية والمنظمات الطوعية، كما حالت دون تبلور فاعلين جددا ينبثقون من المجتمع نفسه ويكونون اقرب إلى معرفة احتياجاته والاستجابة لها ومع استفحال أزمة الدولة الإفريقية الاقتصادية والمالية زاد تدهور أوضاع التعليم فبالإضافة للاختلالات الهيكلية فى فلسفه وخطه وتنفيذ العملية التعليمية، جاء الاتجاه العام الجديد لخفض الإنفاق الحكومى، والبرامج المبتسرة التى قدمها البنك والصندوق الدوليان لإصلاح التعليم، ليزيدا من الاضطراب والفشل الوظيفيين اللذين تعاش منهما الدولة فى هذا المضمار ففى كينيا على سبيل المثال:
تبنت الحكومة توصيات البنك والصندوق القاضية بخفض الإنفاق على التعليم، وتحميل المستخدمين (العائلات) لجزء من تبعة هذا الإنفاق فيما عرف باسم برنامج ـ المشاركة فى العبء (19)، ويتضمن ذلك قيام أولياء الأمور بالمشاركة فى نفقات صيانة المدارس وتوفير التجهيزات المدرسية والكتب الخ، مما فتح الباب أمام استنزاف موارد العائلات دون وجود رقابة على كيفية إنفاقها وأسفر منذ تطبيقه عن تراجع صاف فى عدد الأطفال الملتحقين بالصف الأول الابتدائى كما أدت توصية البنك والصندوق الخاصة بتعديل هيكل التعليم باتجاه تقليص أعداد المقبولين فى التعليم الأدبى لصالح المجالات التطبيقية والتعليم الفنى إلى زيادة أعداد المقبولين فى ذلك الأخير دون أن يطرأ أى تعديل كيفى على العملية التعليمية نفسها، ومن ثم كانت النتيجة النهائية هى زيادة أعداد أشباه المؤهلين من الفنيين غير القادرين على الدخول فى سوق العمل الحقيقى بعد قضاء أثنى عشر عاما على الأقل فى الفصول فى دراسة نظرية للعلوم التطبيقية (20).
إن المحصلة النهائية لاستئثار الدولة الأفريقية برسم وتنفيذ العملية التعليمية هى الفشل فى وضع سياسة متكاملة، ومتوافقة فيما بين عناصرها، وفيما بينها وبين أوضاع المجتمع واحتياجاته، وأوضاع الاقتصاد الوطنى واحتياجاته، وبالتالى الفشل فى أن تجعل هذا المجهود التعليمى جزءا من عملية التنمية الاجتماعية التى تصدت لأحداثها ويزيد الأمور سوءا الأن الاتجاه الجديد لانسحاب الدولة وتخليها عن الدور الذى كانت تلعبه دون أن تكون قد أعدت ـ أو سمحت بتبلور ـ جهة أخرى تضطلع بهذه الوظيفة ومن ثم تترك الساحة خالية لتأثيرات خارجية انتقائية الطابع تفتقد هى الأخرى لتصور شامل متوافق مع المجتمع.
2 ـ القضاء:
تتميز النظم القضائية السائدة فى أفريقيا منذ الاستقلال بأربع سمات رئيسية:
أ ـ احتفاظ الدولة الإفريقية عند استقلالها بالنظام القضائى الذى كان المستعمر قد أقامه فيها مع تعديله ليتوافق مع المتطلبات الرسمية استقلال ويبدو ذلك فى كل الدول الإفريقية بلا استثناء سواء كانت تنتمى للاستعمار الفرنسى أو الإنجليزى ففى غرب أفريقيا تضمنت دساتير الدول الجديدة اعتماد ـ النظام القضائى القائم فيما عدا ما يتنافى مع سيادة الدولة (21)، ومن ثم تم إنشاء محكمة عليا ومجلس للدولة فى كل دولة بدلا من الإحالة إلى نظرائهما الفرنسيين قبل الاستقلال، وتم الاحتفاظ ببقية النظام القائم، وكان هذا النظام يتسم بسمتين أساسيتين تركتا آثرهما على عمل النظام القضائى بعد الاستقلال وهما:
1 ـ وجود قضاء مزدوج:
الأول حديث يقوم بتطبيق القانون الإنجليزى أو الفرنسى ويطبق أساسا على الأوربيين، ثم اخذ يتوسع بحيث اصبح يطبق على كل ما يدخل فى إطار القطاع الحديث كالأراضى والشركات الخ، ويضطلع به قضاة تم استقدامهم من أوروبا (من الدولة الأم) ويرتبطون بنظامها الثانى تقليدى، يعتمد على تطبيق الأعراف السائدة ويقوم بتطبيقه إداريون من الإدارة الاستعمارية يعاونهم عدد من الزعامات التقليدية، ويتم تطبيقه على الوطنيين.
2 ـ هيمنة العناصر الإدارية على عملية الفصل فى المنازعات على حساب العناصر القضائية، وذلك بحكم النقص الدائم فى أعداد القضاة المتوفرين بالمستعمرات (من الأوربيين) وتشتت التجمعات السكانية عبر أقاليم المستعمرة، ومن ثم كان يتم الاستعانة بانتظام بموظفى الإدارة المدنية (من الأوربيين) وهم الذين كان لهم الجانب الأكبر من الاحتكاك بالسكان، على أساس توفير القضاة للدرجات الأعلى من المحاكم.
ب ـ الاستمرار فى تشغيل القضاة الأوربيين العاملين فى النظام القضائى لحظة الاستقلال، واستقدام أعداد إضافية منهم لمواجهة التوسع فى النظام فى ظل غياب الكوادر المحلية المؤهلة، والتوسع فى إرسال البعثات التعليمية إلى أوروبا لخلق كادر قضائى ـ إفريقى.
ج ـ التوسع فى اختصاص قطاع القضاء الحديث عل حساب القطاع التقليدى، وبلغ ذلك أقصى صورة له فى الدول الناطقة بالفرنسية حيث تم إلغاء هذا القطاع فى معظم هذه الدول رسميا (22).
وأن استمر فى لعب دور مؤثر، كما شهدت البلدان الناطقة بالإنجليزية زيادة واضحة فى اختصاصات القضاء الحديث وتهميشا رسميا متزايدا لدور القطاع التقليدى (23).
د ـ الاحتفاظ بأساس القانون كما هو دون تغيير، سواء كان دلك هو القانون المدنى الفرنسى أو القانون العام الإنجليزى (24)، وذلك دون أى تمحيص أو تطوير لا لمضمونه أو حنى للغته المستخدمة والتى تنتمى إلى إنجليزية وفرنسية القرن الثامن عشر بل إن التعديلات التى تم إدخال على هذين الأساسين فى بلدان الأصل لم يتم إدخالها ق البلدان الأفريقية التى استخدمتهما، ومن ثم اصبح النظام القضائى الأفريقى على حد تعبير أحد رجال القضاء الفرنسيين ـ صورة للتشريعات التى وضعها المستعمر ولكنها مجمدة عند تاريخ الاستقلال (25).
لقد أدى الاحتفاظ بالنظم القضائية الاستعمارية كما هى إلى استمرار ما يمكن تسميته ـ بالانفصال الاجتماعى عن النظام القضائى ـ إذ أن إدخال نظم قانونية تعبر فى نهاية التحليل عن درجة ونوع معينين من التطور الاجتماعى الذى تم فى سياق تاريخى محدد لشعوب لها سمات ثقافية محددة، عل مجتمعات أخرى لها سمات مختلفة وتقف عند درجة ونوعية مغايرة من التطور الاجتماعى، بما يعنيه ذلك من أن النظم القانونية السائدة أصبحت فى وضع لا تعبر فيه بأى حال عن المجتمع بل نفرض عليه فرضا وباستخدام القوة أدى ذلك إلى نتيجتين:
المساهمة فى عملية ـ تغريب (26) قطاع من المجتمع، وإدماجه تماما فى صورة المجتمع والمواطن الغربى، ودفعه إلى المحاولة الدائمة للتكيف مع ضوابط ومستجدات المعايير الغربية ومعاناة آثار الازدواجية الثقافية الناجمة عن هذا التغريب ؤ ظل الحياة فى بيئة غير غربية ـ المساهمة فى عملية ـ اغتراب (27).
الدولة عن القطاع الأكبر من المجتمع، ودفعه إلى البحث عن مجالات أخرى للوفاء باحتياجاته خارج إطارها ومن ثم فإن الدولة فشلت فى استيعاب وظيفة التقاضى وفض المنازعات بين أفراد المجتمع داخل أبنيتها، واقتصر دورها على ـ تشغيل ـ النظام القضائى الذى وضعته الإدارة الاستعمارية، بل إنها فشلت حتى فى مهمة التشغيل هذه ولحق بالنظام القضائى الجمود والفساد الذى تعانى منه أبنية الدولة ككل، بحيث اصبح النظام القضائى أحد أهداف عملية الإصلاح الذى تقوضه المؤسسات الدولية المانحة (28).
وتجلت النتيجة النهائية فى اتجاه السكان إلى تسوية مشاكلهم القضائية بعيدا عن النظم القضائية الرسمية (29).
وذلك باللجوء إلى المؤسسات التقليدية داخل القرية أو العشيرة أو القبيلة، حيث أن النظام الرسمى بالنسبة لهم شديد التعقيد، وقائم على إجراءات شكلية لا قبل لهم بها، ويطبق قوانين قائمة على مفهوم التخاصم والحقوق الفردية المطلقة وليس على مفهوم التوافق والتوازن الاجتماعى والمترسخ فى الثقافات الإفريقية، وحيث هو فى نهاية الأمر يجر الإدارة الحكومية داخل النزاع فيؤدى إلى توسيعه والى ضياع الحقوق أو إلى الظلم، ويصبح اللجوء إلى المحاكم هو الحل الأخير إذا فشلت كل الجهود الأخرى أو إذا اضطر المواطن لذلك بحكم التشريعات (مثلما الوضع بالنسبة لإثبات الملكية العقارية فى بعض الدول (30).
ومن ثم تبلورت فى كل الدول الأفريقية أبنية مغايرة، لا تمثل جزءا مر الدولة، تضطلع هى ـ لا الدولة ـ بالقيام بجانب كبير من وظيفة التقاضى وحل المنازعات.
3 ـ الصحة:
بالرغم مر النجاح النسبى الذى حققته الدولة الأفريقية فى مجالات الصحة العامة وخاصة تخفيض معدلات وفيات الأطفال، ألا أن هناك عددا من الملاحظات السلبية التى يجب أخذها فى الاعتبار عند تقييم أداء الدولة فى هذا المضمار:
أ ـ أن نسبة الانخفاض فى معدلات وفيات الأطفال اقل بكثير من النسب التى حققتها الدول النامية الأخرى إن عددا من الدول الأفريقية شهد تدهورا ملحوظا فى الخدمات الصحية عما كان سائدا أيام الإدارة الاستعمارية، ففى 6 دول تدهورت نسبة الأطباء لعدد السكان عام 1984عن تلك التى كانت سائدة عام 1965 كما اصبح من المتعذر الحصول على هذه النسبة فى ثمانى دول أخرى، كما أن الدول التى حققت تحسنا على هذه النسبة لم تقترب فيها درجة التحسن ولو من بعيد من تلك ائتى حققنها الدول النامية الأخرى (31).
ب ـ أن الأرقام المطلقة الخاصة بالأوضاع الصحية تشى بأن حالة الصحة العامة فى الدول الإفريقية بشكل عام مازالت بعيدة كل البعد عن المعايير الدولية السائدة حتى فى الدول المتخلفة غير الإفريقية، ففى حين تتخطى نسبة عدد السكان/ لكل طبيب عشرة آلاف:1 فى معظم دول أفريقيا، لا تتجاوز ألف : 1 فى معظم بلدان أمريكا اللاتينية واسيا المقاربة لها فى مستويات الدخل (32)، بما يشى بأن الأزمة ليست أزمة موارد بقدر ما هى أزمة تخصيص وإدارة.
ج ـ أن الجهود الصحية التى تم بذلها لم تكن مرتبطة دائما بالدولة، بل إنها ارتبطت تاريخيا بالجمعيات الطوعية والدينية الإفريقية منها والغربية، واستمرت هذه الجمعيات ـ برغم المضايقات التى فرضتها عليها مؤسسات الدولة ـ فى الاضطلاع بجانب لاستهان به من الجهود الصحية فى عدد كبير من الدول الإفريقية.
د ـ أن الخدمات الصحية التى تقدمها الدولة تشهد تدهورا ملحوظا منذ بداية الثمانينات مع تقليص الإنفاق الحكومى، ومن ثم ـ مرة أخرى ـ يجد السكان تلبية احتياجاتهم فى هذا المضمار خارج إطار الدولة (33).
نخلص من هذا إلى أن الدولة، برغم الجهود التى بذلتها، والموارد التى خصصتها، والمؤسسات التى أنشأتها، والدعاية التى روجتها، من أجل قيادة ودفع التنمية الاجتماعية، لم تسفر فى واقع الأمر عن أحداث هذه التنمية المنشودة وأن احتكار الدولة للدور الرئيسى فى هذا المجال واستبعادها المتعمد للفاعلين الآخرين أو إضعافهم وتقييد حركتهم تحت دعوى تدعيم الاستقلال الوطنى أو بناء الدولة كانت نتيجته المباشرة تفويت الفرصة على المجتمع فى إيجاد مؤسسات تعبر تعبيرا حرا عن ثقافته وتستجيب إلى مطالبة الوظيفية بشكل مؤسسى لا متوافق مع معاييره الرئيسية وفى إطار تنموى، أصبحت الدولة عوضا عن ذلك معوقا للتنمية وعبئا على كاهل حركة المجتمع التلقائية بل أن السياسات التى اتبعتها الدولة أسفرت عن؟ نتائج معاكسة فأهدافها أما بسبب الفشل فى توظيف هذه السياسات فى إطار تنموى متكامل أو بسبب التمسك الشديد بالسلطة المطلقة مما حال دون أن تؤتى السياسات المتبعة نتائجها الطبيعية مثلما حدث فى مجال التعليم وما افرزه من بور للتوتر الاجتماعى بدلا من أن يكون قناة للتنمية الاجتماعية لا كما أن إغفال النخبة التى قادت حركة الدولة لحقائق المجتمع وانفصالها عنه، وتوهمها إمكانية فرض المؤسسات الغربية عليه من عل، وتجاهلها للثقافات التقليدية على أمل انقراضها، ثم فشلها فى استيعابها عندما حاولت ذلك ـ متأخرا ـ فى بعض الدول نتيجة محاولتها استغلال هذه الثقافات لتدعيم سيطرة الدولة وليس بهدف إحداث تحويرات حقيقية فى أبنية وفلسفة الدولة بحيث يتم إدماج هذه الثقافات فيها بشكل متفاعل، أدى ذلك إلى المصادرة على فرص نباح جهود الدولة فى التنمية الاجتماعية نتيجة الانفصال بين مؤسساتها بشكل عام وبين المجتمع ثالثا:ـ الوظائف المتعلقة بالنظام السياسى:ـ وتشمل هذه المجموعة ثلاث وظائف رئيسية:ـ تمثل المصالح، التنشئة والتجنيد، والحفاظ على الأمن القومى والسلامة الإقليمية (34).
1 ـ تمثيل المصالح:
تشمل هذه الوظيفة القيام بعدد من الوظائف الفرعية، مثل التعبير عن المصالح وتجميعها وصياغتها فى شكل سياسات، والدفاع عن هذه السياسات والدعوة لتبنيها عمليا، ودفع ومساندة هذه السياسات فى دوائر صنع القرار، والمفاضلة بينها والاختيار من بينها واحتواء ردود الفعل المعاكسة ومساومتها، وكذلك الاتصال السياسى بين الجماعات والنخب المختلفة وبين الجماهير والسلطة وقد تنوع أداء الدول الأفريقية لهذه الوظيفة تنوعا ملحوظا، بين الفشل الكامل (زائير ـ تشاد)، وبين الفشل النسبى (إثيوبيا ـ رواندا ـ بوروندى ـ النيجر ـ السودان ـ أوغندة)، وبين النجاح النسبى (كينيا ـ تنزانيا ـ السنغال ـ نيجيريا بعد 1970) وقد اعتمدت الدول الإفريقية فى اضطلاعها بهذه الوظائف على عدد من الأبنية السياسية والإدارية، كالأحزاب السياسية (النى تحولت غالبا إلى الحزب الواحد)، والجمعيات المهنية، ووسائل الإعلام المختلفة، والتقسيمات الإدارية المختلفة التى تراوحت هن الحكم المحلى (كينيا) إلى اللامركزية (إثيوبيا) إلى للفيدرالية (نيجيريا) وبصفة عامة فإن معظم الأبنية التى أنشأتها الدولة لهذا الفرض قد تم تجريدها من أى فعالية:
1 ـ فالنظم الحزبية التى كان يفترض ـ وفقا للدستور ـ أن تقوم بالتعبير عن المصالح المتباينة داخل المجتمع وإدارة وحسم الصراع بين هذه المصالح بشكل تساومى وسلمى، قد تحولت إما بالقانون أو عمليا إلى نظام الحزب الواحد (35)، والذى اعتبرته الدولة أداة صهر الصالح المختلفة والتعبير عنها وهو ما لم يكن يحدث حيث أن الحزب تحول عمليا إلى أداة للدعاية والترويح لسياسة الدولة ولفرض تنفيذها ورقابة ذلك كما نظر إلى اختلاف الصالح ليس باعتباره أحد مهام النظام السياسى وإنما باعتباره ـ خيانة ـ لمهام البناء الوطنى الملقاة على عاتق الدولة والتى ـ لا تترك مساحة للاختلاف أو للانقسام (36).
وفى حقيقة الأمر فإن نظم الحزب الواحد تحولت عن الاضطلاع بــ صهر المصالح ـ بمعنى تجميعها فى بوتقة واحدة والمفاضلة بينها والمساومة بشأنها، إلى تجاهل وقمع لبعض الصالح مع التعبير المنتظم عن نوعية واحدة من المصالح: أما مصالح فئة معينة (كالعسكريين فى بعض الحالات) أو اثنيه معينة (الكيكيو فى كينيا تحت حكم كينياتا أو الولوف فى السنغال أو التونسى/ الهوتو فى رواندا وبوروندى. الخ)، أو منطقة جغرافية معينة (الجنوب فى بينين والنيجر أو الشمال فى أوغندة والسودان) أو عن مجرد أراء ورغبات الرئيس (أوغندة عيدى أمين أو أفريقيا الوسطى بوكاسا أو كوت ديفوار بوانييه) أو عن مزيج من كل هذه الاتجاهات معا (زائير موبوتو) (37).
وفى حين كانت دعاية الدولة وجزء هام من شرعيتها مركزة على قيامها
بــ بناء الأمة (38)، فإن نتيجة أداء النظام السياسى فى هذا المضمار هو تفتيت درجة الإجماع الوطنى النى كانت سائدة، وهو ما يبدو بوضوح فى حالات انهيار الدولة المتفشية فى القارة (زائير ـ ليبيريا ـ الصومال).
2 ـ كما اقتصر الدور الاتصالى للنظم الإعلامية على العمل فى اتجاه واحد:
نقل الرسائل الاتصالية من القمة للقاعدة، أى أن الدور الاتصالى الحقيقى لها اقتصر على معاونة النظام الإدارى فى الحكم وعلى الدعاية والتمويه.
3 ـ وبالنسبة إلى الجمعيات المهنية والاتحادات (الفلاحين ـ النساء ـ النقابات الخ) فقد دخلت كلها فى جعبة الحزب الحاكم وتحولت إلى فروع وامتدادات له ومن ثم امتنع قيامها بوظائف تمثل المصالح.
4 ـ إما الحلول الإدارية التى تبنتها الدولة الإفريقية كوسيلة للمعاونة فى تمثل المصالح، والتى تبلورت فى شكل سياسات متعددة لنشر السلطة فى الأقاليم، فإنها لم تؤد إلى تحسين أداء الدولة فى هذا المضمار وذلك للأسباب التالية:
إن هذه فى الإجراءات اعتمدت فى مجملها على مفاهيم ـ الإدارة المحلية ـ وليس على مفاهيم ـ الحكم المحلى ـ ، فلم تتضمن نقلا لسلطات الدولة (المركزية) إلى الحكام المحليين المنتخبين وإنما اقتصرت على تفويض جزء من سلطة الحكومة المركزية إلى الحكام المحليين المعينين فى الأقاليم (من قبل السلطة المركزية)، بل أن هذه الإجراءات لم تتضمن فى معظم الأحوال انتخاب الهيئات الممثلة للمجتمعات المحلية وإنما اختيارهم بالتعيين من قبل ممثلى السلطة المركزية الأمر الذى يجرد العملية كلها من أى تقل أو نشر للسلطة لتصبح مجرد إعادة تنظيم للسلطة المركزية (39).
إن الانقسامات حول المصالح هى بطبيعتها انقسامات سياسية، ويصعب تصور إمكانية حلها من خلال ـ إجراءات إدارية، خاصة إذا ما كانت هذه الإجراءات تتم من جانب واحد (السلطة) دون تساوم سياسى، ودون آدنى رغبة فى التخلى عن السلطة أو السماح باقتسامها ونتيجة لفشل الأبنية الرسمية فى الاضطلاع بوظائفها فى هذا المجال، ظهرت عدة أشكال من الرد المجتمعى تمثلت فى:
1 ـ الخروج على الدولة وتحدى شرعيتها وسلطتها، وغالبا ما يقترن ذلك باستخدام القوة المسلحة، مثلما حدث من الطوارق فى مالى والنيجر، ومن إقليم بيافرا فى نيجيريا قبل عام 1970، ومن ألبا جندا فى أوغندة، ومن الجنوبيين فى السودان الخ.
2 ـ تبادل الاستيلاء على جهاز الدولة، وذلك على أساس الوعى بأن ذلك هو الطريق الوحيد لتحقيق مصالح الجماعة الشارعة فى ذلك واتخذ هذا الشكل صورتين: الأولى باستخدام القوة المسلحة على نطاق واسع مثلما يحدث دوريا فى تشاد منذ استقلالها، والتانى باستخدام الانقلابات العسكرية ـ الصغيرة ـ والتى تضع على رأس الدولة ممثلا للجماعة المهمشة مصالحها ليقوم بالحكم لصالحها حتى تتمكن الجماعة الأخرى من عمل نفس الشىء وهكذا، مثلما الوضع فى موريتانيا.
3 ـ الانسحاب من الدولة، والبحث عن أطر أخرى لتحقيق الحد الأدنى من المصالح هذه الأطر قد تتخذ شكلا اجتماعيا كالقبيلة، أو اقتصاديا كالقطاع غير الرسمى، أو الاثنين معا كالقطاع ، الأمر الذى يؤدى فى النهاية لمزيد من تهميش الدولة (40).
4 ـ الاستيلاء الجزئى على أجهزة الدولة من خلال علاقات العمالة بين المجموعة الاجتماعية أو الاثنية محل لبحث وبين النخبة الحاكمة أو الرئيس مباشرة، وهو ما يعرف ـ بسياسة الأكل (41).
ويتضمن هذا الشكل إذعان المجموعة للسلطة المطلقة للرئيس أو للمجموعة لحاكمة مقابل حصولها على نصيب من ـ الكعكة، وقد يتراوح هذا النصيب بين المشاركة فى الحكم (بنفس شروط الإذعان) إلى الحصول على عدد من الوظائف فى أجهزة الدولة تسمح بتحويل جزء من الموارد ـ العامة ـ لصالح هذه المجوعة وينتشر هذا الشكل فى معظم الدول الإفريقية وان كان بحكم تعريفه لا يستطيع أن يشمل كافة المجموعات السكانية ومن البديهى أن هذه الأشكال عادة ما تتواجد جنبا إلى جنب.
2 ـ التنشئة والتجنيد السياسيان:
ويتضمن ذلك الاضطلاع بوظائف تقل القيم والمعايير المتعلقة بالنظام السياسى وبالعملية السياسية إلى الأجيال الجديدة، وتكوين كوادر جديدة تنضم إلى النظام كأعضاء ويؤدى الاضطلاع بهاتين الوظيفتين إلى صيانة النظام السياسى، وضمان حد أدنى من الاستقرار له، إذ يتم باستمرار تجديد الكوادر السياسية له ووفقا لقواعد مستقرة ومتعارف عليها من قبل الجميع ودون تهديد لكيان النظام أو لقيمة الأساسية وعادة ما يتم الاضطلاع بهاتين الوظيفتين من جعل أبنية النظام العادية كالنظام الحزبى والجمعيات وخلافه كما تلعب بعض الهيئات كالجامعات والمدارس الكبرى دورا فى ذ لك فى البلدان مستقرة النظم وفى أفريقيا انعكست هشاشة الأبنية السياسية وضعف أدائها الوظيفى على عمليتى التنشئة والتجنيد، إذ أصبحت القيم السياسية الفعلية التى يتم نقلها والمشتقة من الأسلوب الفعلى لعمل النظام السياسى انقلابات حكم مطلق استبعادى ـ مؤسسات ورقية الخ) فيما تتسم بـ التركيز على الانقطاع وليس على الاستمرارية ـ التركيز على الإحلال والتبديل وليس على التنمية والتطوير وهى قيم غير مواتية للاستقرار بصفة عامة كما إن التجنيد أصبح يتم ليس من خلال مؤسسات وأبنية النظام السياسى، وإنما من خلال أبنية ومؤسسات خارج الدولة ومناوئة لها فى اغلب الأحيان كالاثنية أو الجيش ألا أن ذلك التعميم يجب آخذه باعتدال، وبالنظر إلى التنوع الكبير فى أوضاع البلدان الإفريقية، ففى السنغال وكوت ديفوار على سبيل المثال (كما فى كينيا وتنزانيا) يتخذ التجنيد شكلا مختلفا قائما على الانخراط فى مؤسسات الدولة (وخاصة الخدمة المدنية)، وبغض النظر عن أن ذلك يتم وفقا لعلاقات العمالة وسياسة الآكل التى سبق الحديث عنها، فإن القيم التى يتم التركيز طيها هنا ليست الإحلال والتبديل وليس الانقطاع، بل الاستمرار يه وان كانت تقع فى مشكلة أخرى وهى إنها تحمل فى داخلها مضامين غير وظيفية، أى أن هذه الاستمرارية تعد إعادة إنتاج للفشل الوظيفى للنخبةوالدولة أكثر مما تعد تطويرا لهما، ألا أن لها على الأقل ميزة الاستقرار.
3 ـ حفظ الأمن القومى والسلامة الإقليمية: ويشمل ذلك ثلاث وظائف: الحفاظ على حدود الدولة ضد أى اعتداء خارجى، والحفاظ على سلامة الدولة ضد أى محاولات لتقسيمها والحفاظ على مؤسسات واستمرارية كيان الدولة وترتبط المهمتان الأوليان بقوات الجيش فى حين ترتبط الأخيرة بقوات الأمن الداخلى، إلا أن الواقع الإفريقى يشهد بضعف الفارق بين الاثنين وقد فشلت المؤسسات العسكرية فى الدول الإفريقية ـ مع استثناءات قليلة ـ فى الاضطلاع بهذه الوظائف، وذلك على النحو التالى:
أ ـ فى الحالات القليلة التى تعرضت فيها الدولة إلى هجوم خارجى، فشلت قوات الجيش فى التصدى الكفء لهذا الاعتداء وعلى سبيل المثال، حينما تعرضت موريتانيا إلى هجعات قوات البول يساريو فشلت القوات الموريتانية فى التصدى لهذه الهجمات فشلا كاملا وأصبحت قوات البوليس أربو تهدد العاصمة نواكشوط نفسها، مما حدا بالدولة الموريتانية إلى التخلى عن كافة طالبها إزاء الصحراء الغربية كذلك فإن جيوش ـ دول لمواجهة (وخاصة زامبيا وزيمبابوى) لم تستطع لأردع ولا التصدى للهجمات التى كانت تشنها عليها قوات جنوب أفريقيا وعندما قامت القوات التنزانية عام 1979 بغزو الأراضى الأوغندية، لم تستطع القوات الأوغندية ـ بكل جبروتها الداخلى ـ التصدى لها والحيلولة دون قيام القوات الغازية بإسقاط النظام وإحلال نظام آخر محله (42).
ب ـ أما فى حالات التهديد الداخلى لوحدة الدولة من خلال اندلاع حرب انفصالية، فلم يكن بلاء الجيوش الإفريقية أفضل حالا فعندما نشبت الحرب الانفصالية فى نيجيريا عام 1966 والتى قادتها المقاطعات الشرقية (بيافرا)، بهدف إقامة دولة مستقلة لم تستطع موات الحكومة المركزية مواجهة الحركة بل وتقهقرت حتى امتدت سيطرة الانفصاليين إلى وسط نيجيريا وشارفت على دخول المقاطعات الغربية، ولم يتم القضاء على الحركة الانفصالية إلا عام 1970 وبعد الحصول على دعم خارجى مكثف كذلك فإن أداء القوات الزائيرية كان ضعيفا إزاء المحاولات المتكررة لإقليم كاتنجا الانفصال (43) وينطبق نفس الشىء على القوات الإثيوبية والتى منيت بهزائم منكرة طوال عامى 1990، 1991 وانتهى الأمر بفرارها وتركها لأسلحتها للقوات الإريترية التى استطاعت بدء تنفيذ مشروعها الانفصالى.
ج ـ إما فى الحالة الثالثة ـ والأكثر شيوعا ـ وهى نشأة حركات تمرد تتحدى الدولة القائمة وشرعيتها، فان الجيوش الإفريقية لم تكن أفضل أداء (ومن قبلها أجهزة الأمن الداخلى)، وينطبق ذلك على معظم الدول الإفريقية والتى تشهد حركات تمرد مزمنة، ابتداء من السودان وتشاد ورواندا وبور ندى وأوغندة، سرا بليبيريا وسيراليون، وانتهاء بموزمبيق والصومال بل على العكس، فإن المؤسسة العسكرية تحولت إلى مصدر للتهديد الدائم لمؤسسات الدولة، والواقع أن هذا التهديد أصبح سمة من سمات العملية السياسية فى البلدان الإفريقية إذ يرجع إلى 1966 (عام الوثوب على السلطة من قبل العسكريين وبدء مسلسل الانقلابات) ويمتد حتى أزمات التوجو الأخيرة (1992) والتى تدخل فيها الجيش لقمع وتحدى سلطة البرلمان المنتخب بل واعتقال رئيس الوزراء نفسه وفى النهاية فإن الاضطلاع بوظيفة الحفاظ على الأمن القومى والسلامة الإقليمية أصبح يعتمده على إقامة ترتيبات أمنية مع دولة خارجية سواء كانت فرنسا وبلجيكا، أو كوبا والاتحاد السوفييتى قبل زوال الكتلة الشرقية وتتضمن هذه الترتيبات تواجد قوات عسكرية بأسلحتها على أراضى الدولة الأفريقية سواء بصفة دائمة (تشاد ـ إثيوبيا ـ وأنجولا سابقا) أو بصفة مؤقتة لمواجهة أزمات محددة (بورجانتى فى الجابون)، أو كقاعدة للانتشار (أفريقيا الوسطى)، مع وجود اتفاقات أمنية وتسهيلات دائمة يمكن استخدامها عند الطوارئ وقد لعبت هذه الترتيبات الدور الحاسم فى القيام بوظيفة حفظ الأمن القومى والسلامة الإقليمية للدولة الإفريقية ومن ناحية أخرى، فإن كل الجيوش الإفريقية تعتمد اعتمادا عضويا على الخبرة الفنية والاستشارية والتدريبية لإحدى الدول الغربية، بالإضافة للاعتماد فى مجال التسليح ويقترن ذلك باستعداد متزايد من قبل النخب الحاكمة إلى استخدام هذه الخبرات ـ والقوات ـ لمواجهة خصومهم الداخليين معا دفع الدول المقدمة للخبرة المذكورة إلى الاتفاق المسبق على تقييد استخدامها مما قلل فى نهاية التحليل من سيطرة الدولة الإفريقية على الآلية القائمة على الاضطلاع بوظيفة حفظ أمنها (44).
الجزء الثانى: تردى أداء الدولة فى أفريقيا: الجذور والأسباب:
من أصعب المهام فى تحليل الظواهر الاجتماعية الفصل بين الأسباب والنتائج أو بين مظاهر الأزمة وأسبابها، إذ تتداخل عادة مظاهر الأزمة فى آلياتها لتصبح هى نفسها قوة دافعة جديدة للأزمة وهكذا ومع تسليم هذه الدراسة بأن كثيرا من ظواهر الأزمة أفريقيا وتداعياتها مثل انخفاض كفاءتها الوظيفية وتقلص شرعيتها، تشكل عوامل هامة فى تطوير واحتدام الأزمة، ألا أن التحليل يقتضى فى نهاية الأمر ـ ومع قليل من التعسف ـ أن نستخلص عددا من الخصائص التى تدل المؤشرات على مسئوليتها أكثر من غيرها عن إنتاج: الظاهرة، باعتبارها أسبابا ونخص بالذكر هنا خاصتين التصقتا بالدولة الإفريقية منذ نشأتها وللآن، ويمكن اعتبارها المسئولتان المباشرتان عن الفشل الوظيفى الذى: تعانى منه الدولة الإفريقية، وهما:
ـ عدم ملاءمة وسائل الدولة.
ـ عدم ملاءمة أبنية الدولة للواقع الاجتماعى الإفريقى والدراسة إذ تقف عند هذا التحديد، تدرك جيدا أن هذه الخصائص قد تكون بدورها نتاجا لأسباب أخرى، فعدم ملاءمة وسائل الدولة ـ ونقصد بها الإدارة الحكومية أساسا ـ يدفعنا للتساؤل عن السبب فى تدنى هذه الإدارة، الأمر الذى يدخلنا فى حلقة مفرغة، كما يخرجنا من إطار دراسة الدولة إلى دراسة لسوسيولوجية التقدم والتخلف وهو ما يخرج عن هدف هذه الدراسة.
أولا: عدم ملاءمة وسائل الدولة:
اعتمدت الدولة الإفريقية فى أدائها لوظائفها على الأجهزة الإدارية بمختلف أنواعها، ابتداء من الوزارات ومرورا بالشركات والمؤسسات العامة (التجارية أو الخدمة) وانتهاء بالجمارك والشرطة وخلافه، وقد كانت هذه الإستراتيجية غير ملاءمة من ناحيتين:
الأولى أن المؤسسات الإدارية بحكم تعريفها لا تستطيع الاستجابة إلى المتطلبات السياسية الملقاة على عاتق الدولة ولا تستطيع ـ دون إشراف واستراتيجية سياسية متابعة ومتجددة أن تؤمن الاضطلاع بوظائف الدولة سواء كانت هذه الوظائف سياسية الطابع (وهى مسألة مفهومة) أو حتى إدارية الطابع (باعتبار أن الخيارات الإستراتيجية المتعلقة بها سياسية وليست إدارية) والناحية الثانية أن النظم الإدارية فى الدولة الإدارية هى نظم مشوهة وذلك بحكم نشأتها وأسلوب عملها.
أ ـ عدم ملاءمة النظم الإدارية:
لجأت الدولة الإفريقية إلى التوسع فى الأجهزة الإدارية التى كانت حكومات المستعمرات المحلية قد أنشأتها بالإضافة إلى نقل نظم الخدمة المدنية المطبقة فى البلدان الأوروبية المستعمرة لحظة الاستقلال وبلغ الاقتباس حد التصوير الفوتوغرافى للنظم الأوربية فى معظم الأحيان، وتم ذلك من خلال:
1 ـ الإبقاء على الأوربيين المقيمين فى المستعمرات للاستمرار فى اضطلاعهم بوظائفهم التى كانوا يضطلعون بها قبل الاستقلال (قضاء ـ شرطة ـ إدارة الخ).
2 ـ استقدام أعداد متزايدة من ـ المعاونين (45) للمساهمة فى إدارة الدولاب الإدارى للدولة، إما بالعمل المباشر فى المصالح أو بتدريب العاملين أو بوضع النظم الإدارية.
3 ـ إرسال الموظفين إلى العواصم الأوربية لتشرب النظم الإدارية الغربية (46).
4 ـ نقل اللوائح والنظم الحاكمة لعمل الأجهزة الإدارية من مثيلاتها الأوروبية وكانت النظرة التى تكمن خلف هذا النهج مبنية على الافتراضات الآتية:
1 ـ أنه كلما زادت قدرة الدولة على التدخل والتغلغل وفرض سلطتها من خلال موظفيها كلما اتسعت عملية التحديث وقهر المجتمعات التقليدية.
2 ـ أنه باستيراد النظم الإدارية المتقدمة سيتم ضمان كفاءة الأجهزة الإدارية بالدولة الوليدة.
3 ـ أنه لا يوجد نموذج آخر متقدم غير النموذج السائد فى أوروبا (سواء كان فى أوروبا الغربية أو فى أوروبا الشرقية بالنسبة للدول التى سلكت طريقا يساريا ـ وجوهرهم الإدارى واحد) ثم ذلك فى نفس الوقت الذى كانت فيه الأوتوقراطية هى المبدأ السائد فى النخب الحاكمة فى الدول الإفريقية كلها، ومن ثم وجدت هذه النخب فى النظم الإدارية الحليف الذى يمكن لها أن تعتمد عليه دون أن تضع سلطتها المطلقة محل نزاع، من أجل تحقيق الغايات الوظيفية التى أعلنتها الدولة وفى هذا السياق تم التوسع فى الاعتماد على النظم الإدارية فى تجاهل واضح للطبيعة السياسية لوظائف الدولة تلك ومن مظاهر ذلك الاعتماد التحول الذى شهدته نظم الحزب الواحد والتى تحولت مع الوقت للخضوع لسيطرة العناصر الإدارية، وتسليم النشاط الاقتصادى بالكامل إلى الأجهزة الإدارية (وزارات ـ هيئات للتخطيط الخ) وبالطبع، لم تكن هذه الأجهزة، بحكم طبيعة تكوينها، وأسلوب عملها، وسياسات التوظيف المتبعة فيها ملاءمة لهذه المهام، ومثلما ثم إيضاحه فى القسم الأول لان الحلول الإدارية فشلت فى معالجة المشكلات السياسية، وكان فشلها أعظم فى المجال الاقتصادى، وقد ترجم هذا الفشل فى تبلور قطاع غير رسمى، وغير مؤسسى، للاضطلاع بأداء هذه الوظائف وهو القطاع الاقتصادى غير الرسمى والانسحاب والتمرد السياسيان.
ب ـ تشوه وسائل الدولة:
بتحليل النظم الإدارية التى قامت فى الدول الإفريقية نجد إنها تتسم بثلاث سمات رئيسية:
1 ـ انخفاض الكفاءة47)
ويشمل ذلك:
وجود أجهرة متضخمة ـ خاصة للتخطيط والمتابعة والتنسيق ـ فى الحجم والنفقات دون أن تكون لها وظيفة محددة، ودون أن تضطلع بعمل حقيقى ـ ـ تضخم عدد الموظفين المنخرطين فى الخدمة الحكومية، إضافة للفوضى المطلقة المتعلقة بتصنيفهم والتى تبلغ فى بعض الأحيان (فى غرب أفريقيا) غيابا لأى حصر دقيق لأعداد هم (48).
عدم التوازن بين الإدارات والأفرع المختلفة.
ـ انخفاض كفاءة الموظفين وعدد ساعات عملهم مقارنة بالمستويات الدولية، ومقارنة بحجم الأعباء الملقاة على إداراتهم.
2 ـ سيادة قيم غير مواتية للكفاءة:
برغم عملية نسخ النظم الأوروبية، فإن النتيجة التى أفرزتها تختلف فى قيمها عن تلك السائدة فى النظم المنسوخة، وهى قيم تتنافى ومعايير الكفاءة، ومن أهمها:
منفعية مغايرة للوظيفة:
إن المفهوم السائد للتوظف فى الدولة الإفريقية هو المنفعة التى يمكن أن تعود على المواطن من التحاقه بهذه الوظيفة وليس مفهوم الخدمة العامة، ويمكن فى هذا الشان التمييز بين أمرين:
الأول: هو منفعية الوظيفة نفسها، حيث الالتحاق بسلك الإدارة العامة وهو وضع مميز فى معظم الدول الإفريقية (خاصة الناطقة بالفرنسية) إذ يتيح لصاحبه مرتبا أعلى من مثيله فى القطاع الخاص، وأكثر استقرارا، بالإضافة لمزايا عينية كالسكن والانتقال وإمكانية الاقتراض من البنوك الخ الثانى:ـ هو منفعية الدرجة التى يشغلها الموظف، وهنا يظهر التمييز بين درجات تتيح لشاغلها فرصة الثراء السريع، كالجمارك وإدارات المرور والهيئات الخدمية، والمقاولات الخ وبين أخرى لا يتيح لشاغلها سوى مرتبه الشهرى وظيفية مغيرة للتعيين:
إن الوظيفة الحقيقية للتعيين ليست هى إيجاد أشخاص يقسمون بمؤهلات معينة لأداء مجموعة معينة من الوظائف وإنما أداء وظيفتين أخريين للنظام وهما:
1 ـ التجنيد والعمالة (49) حيث يتحول من فى يده سلطة التعيين إلى مركز مباشر للقوة، ومن ثم يبدأ فى ملء الوظائف الواقعة تحت تصرفه بأتباعه وعملائه سواء كان ذلك على أساس قبلى أو طائفى أو مجرد الشللية، بحيث يضمن هو لهم الحصول على الوظيفة ويضمنون هم له الولاء الشخصى والمطلق وتسرر هذه العلاقة على كافة المستويات، ابتداء من الوظائف الصغيرة وانتهاء برئيس الدولة الذى يحتكر لنفسه دائما حق التعيين فى مختلف الوظائف الكبرى بل والمتوسطة أحيانا سواء فى الإدارات المركزية أو المؤسسات العامة أو الإدارة المحلية، ويستخدم هذه السلطة فى حفظ التوازن بين القبائل والاثنيات أحيانا (موى فى كينيا والموازنة بين الكيكويو اللو) أو فى تدعيم قبيلته أحيانا (كينياتا والكيكويو) أو فى إضعاف خصومه المحتملين وتشتيتهم.
2 ـ المظهرية:
إذ تقوم أجهزة الدولة المختلفة بإضفاء مظهر معين على الدولة، فأمام الدول الأوربية تقوم بإضفاء مظهر الدولة العصرية (ومن ذلك التوسع فى إنشاء اللجان والهيئات الخاصة بإقرار الموازنة العامة للدولة، والتخطيط، والبحث الخ) ـ، وأمام ا لمؤسسات المانحة تقوم بإضفاء مظهر الدولة الشارعة فى حل المشاكل المزمنة (مثل هيئات البينة والتنسيق والهيئات الخاصة)، وأمام المواطنين تضفى مظاهر أخرى (كالمشاركة والديمقراطية والاتساق مع التقاليد الإفريقية. الخ) مفهوم مغاير للخطأ وللعقاب:
يصبح إذن مفهوم الخطأ ليس الانحراف عن المعايير الوظيفية أو التقصير فى أداء الواجبات المحددة فى رسم الوظيفة وإنما الانحراف عن المعايير الشكلية أو باختصار الخروج عن كلمة الرئيس أو خيانته أو تحديه، والمقصود بالرئيس هنا هو الذى قام بتعيين الشخصى إلا إذا كانت واجبات الوظيفة جزءا من خدمه الرئيس (مثلما الحالة بالنسبة لأجهزة الأمن الشخصى)، وعادة فإن العقاب يتراوح حسب حجم العصيان وقوته، ولكنه فى معظم الأحيان يقتصر على النقل من الدرجة ـ النافعة ـ إلى درجة أخرى ـ لا نفع لها ـ بالمعايير السابق الإشارة إليها.
3 ـ الفساد:
فى هذا الإطار يمكن تحليل ما اصطلح على وصفه بالفساد فى الدول الأفريقية (50) الفساد هو أولا استمرار لعلاقة العمالة السائدة فى الإدارة الحكومية ولكن على نطاق اجتماعى أوسع، فوصول الفرد إلى منصب فى الإدارة رهين أولا بحصوله على ـ الشهادة ـ أوالمؤهل ـ اللازم لذلك، وثانيا بحصوله على ـ رضاء ـ من فى يد سلطة التعيين الأولى تتم عادة من ظل القبيلة أو العشيرة أو العائلة بتعويل عملية الدراسة والحصول على الدبلوم، والثانية أيضا تتم من خلال ضغوط وموازنات وعلاقات عائلية وقبلة بالأساس، ومن ثم بوصول الشخص للوظيفة ـ النافعة ـ أخيرا يصبح من واجبه أن يسدد دينه للعائلة أو القبيلة أو كليهما، ويتمثل ذلك إما فى صورة نهب مباشر للموارد العامة أى اقتطاع جزء من الموارد المفترض توريدها للخزانة العامة (مثلما الحال فى خدمات الجمارك) وتوجيهها لجيبه الخاص ـ ومنه إلى العائلة أو القبيلة أو من خلال الحصول على عمولات وسمسرة من المشروعات الداخلة فى اختصاصه الخ، أو يتخذ صورة مساعدة بقية أفراد العائلة على الحصول على وظائف ودرجات ـ نافعة، أو تقديم خدمات لهم، وتصل لدرجة توجيه أدوات الدولة نفسها لخدمة القرية أو الإقليم (اختيار أماكن إقامة المشروعات أو الخدمات العامة الخ) من هنا فان الفساد يتخذ قيمة اجتماعية توزيعية ويصيح الفرد الرافض للانخراط فيه عاقا وخارجا عن الرضى الاجتماعى وعادة ما ينتهى إلى النبذ الكامل وفقدان المكانة (وربما الوظيفة أيضا) ألا أن ذلك لا يعنى أن الفساد مفتوح بلا حواجز ولا حدود، فمن ناحية يجب احترام الهيراركية، بمعنى أن الفساد أيضا يخضع لنفس علاقات الولاء والعمالة التى يخضع لها الجهاز الإدارى ككل، ومن ثم فإن تخطى محل الولاء أو تجاهله أو تحويل العملية إلى مجرد إثراء شخصى، كلاهما من شأنه أن يجرد الفساد من شرعيته الاجتماعية ويعيد له طبيعته الأصلية كاستغلال المال العام ويؤدى للشخص القائم به للخضوع للعقاب والخلاصة أن الوسيلة التى اعتمدت عليها الدولة ـ وهى الإدارة الحكومية ـ كانت وسيلة غير مواتية ـ بطبيعتها ـ لمتطلبات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، كما إنها من باب أولى كانت غير قادرة على الحلول محل النظام السياسى العاجز عن أداء وظائفه وبالإضافة إلى ذلك، فإن الدولة قد توسعت فيها واعتمدت عليها بشكل مطلق مهملة المبادرات المحلية ومؤسسات المجتمعات المحلية بزعم كسر المجتمع التقليدى، كما تعمدت تهميش أى أدوار أخرى آتية من خارج مؤسسة الدولة كالجمعيات المدنية والكنيسة، وأهملت القطاع الخاص أو أخضعت لسيطرة الإدارة الحكومية، ومن ثم اعطت الدولة لهذه الإدارة وجودا شاملا ومسيطرا وملتصقا بوجودها هى ذاتها مما فاقم من الآثار السلبية الناتجة من تدنى كفاءة هذه الإدارة، وقرن تردى أدائها بأداء الدولة كلها لوظائفها.
ثانيا: عدم ملاءمة ابنيه الدولة للواقع الاجتماعى:
أقامت الدولة الأوربية إدارات فى مستعمراتها الأفريقية على صورة إدارتها ومؤسساتها فى أوروبا، وهى مؤسسات جاءت نتاجا لتطور اجتماعى سياسى واقتصادى محدد هو الذى افرزها فى نهاية حقب من الصراعات بين القوى الداخلية والخارجية المختلفة ينطبق ذلك على الوزارات المختصة بإدارة المالية العامة والخرائب مثلما ينطبق على مؤسسات القضاء فإذا كانت البرلمانات وإقامة حكومات مسئولة أمامها هو نتاج تطور الصراع بين كل من الأرستقراطية، والملك، والبرجوازيات الأوروبية الصاعدة، فإن وزارات المالية والاقتصاد وخلافه، بل وفكرة ـ الخدمة المدنية ـ أساسا نشأت كجزء من ذلك الصراع، كمجموعة من الموظفين يدينون بالولاء للملك (السلطة المركزية) وحده دون النبلاء والإقطاعيين، كما أن فكرة الضريبة نفسها خضعت لنفس التطور: من ضريبة يؤديها النبيل الإقطاعى للملك عن مقاطعته (ويفرض هر ضرائبه الداخلية) سواء فى صورة فرسان أو سلع أو ذهب أو كل ذلك، إلى نظام ـ ديمقراطى ـ للضرائب على أساس فردى وشامل ويجب أداءه للعلك وحده (ثم للسلطة المركزية) وكانت إدارة هذه الضرائب من أهم موضوعات الصراع السياسى الاجتماعى فى تاريخ أوروبا نفس هذا التحليل ينطبق على القضاء وعلى فكرة القانون نفسه والتوصل لاتفاق اجتماعى شامل حول ـ القاعدة القانونية: موضوعيتها وشمولها ولاشخصانيتها، وحول التقاضى وسلطة القاضى والمحكمة، وحول التشريع نفسه ومصدر (51).
نقل هذه المؤسسات بالنسخ من المجتمعات الأوربية للمجتمعات الأفريقية مع التباين فى درجة تطور فى كل منهما، ومع اختلاف نوع الثقافة الاجتماعية فى كل منهما، حكم على هذه الإدارات منذ البداية بالاغتراب وإن كان الأفريقى قد نظر إليها باعتبارها إدارات ـ الرجل الأبيض ـ حتى وإن خضع لها قسرا أو لغياب البديل ـ فإن ذلك كان تعبيرا عن حالة الاغتراب هذه وباستقلال الدول الإفريقية فإن النخب التى تسلمت الحكم من الإدارات الاستعمارية، وهى فى مجملها نخب من نتاج التعليم الأوروبى قد تصورت ـ بحق أو بخطأ ـ إنها بإضفائها لألوان العلم الوطنى على إداراتها تنفى عنها صفة الاغتراب وتأفرقها حتى وإن اضطرت فى البداية (أو طول الوقت، حسب الحالة) للاحتفاظ بالموظفين الأوربيين والشاهد أن هذه النظرة قد باءت بالفشل، فبعد ثلاثين عاما من الاستقلال، فإن الإفريقى، المتوسط مازال ينظر إلى هذه المؤسسات باعتبارها مؤسسات الرجل الأبيض، ولا يلجأ أليها إلا مكرها أو مضطرا، ويخرب القضاء لنا مثلا واضحا على ذلك:
ففى أفريقيا الناطقة بالفرنسية لا تزال معظم المنازعات تسوى خارج إطار النظام القضائى الذى ينظر إليه باعتباره معقدا وغير مجدى للطرفين، وغالبا ما يحسم الموضوع إما داخل مؤسسة اجتماعية أخرى.
ـ العشيرة أو القبيلة أو القرية ـ وإما لو تضمن الأمر نزاعا عقاريا وأوجب تدخل الدولة، فإنه يتم بمخاطبة زعيم القبيلة لرئيس الدولة مباشرة قافزا من فوق النظام القضائى كله.
ـ وفى أفريقيا الناطقة بالإنجليزية، حيث مازال القضاة يرتدون الشعر المستعار ويستخدمون إنجليزية القرن التاسع عشر فإن عزوف المواطنين عن اللجوء للمحاكم ليس أقل وضوحا، حيث يحتاج الأمر أن يعرف المرء ـ لغة الأوراق ـ كى يتمكن من دفع مساءلته فى المحاكم وفى هذا المجال بدلا من أن تبذل الدولة المستقلة جهودها لتأسيس القضاء التقليدى وتطويره من خلال تبنى حلول وسهل فى سياق تنموى يصل ما بين الواقع الاجتماعى والمثل الأوروبى العقلانى ويقود إما من الأول للثانى أو لصورة ثالثة متسقة وفعالة فإن الدولة أخذت صف النموذج البيروقراطى الأوربى دون، مراعاة لإمكانية تفاعله مع محيطه الاجتماعى، والنتيجة هى ازدياد الانفصال بين المؤسسات الاجتماعية العاملة وبين أجهزة الدولة العاطلة، ونشأة ما يسمى بظاهرة ـ الدولة البالونية (53).
هذا التحليل ينطبق بنفس القوة على إدارة الضرائب والجمارك وعلى المؤسسات المالية بشكل عام، ويفسر سيادة منطقين بشكل دائم:
ـ منطق مؤسسى يتعلق بوجود نظام ضريبى مماثل لأى نظام أوروبى حديث ولكنه نظام يتهرب منه كل المواطنين ـ أفرادا وشركات ومؤسسات بما فى ذلك المسئولون أنفسهم.
ـ منطق غير مؤسسى مثل الضرائب والإتاوات ـ الإتاوات التى تفرضها القيادات السياسية على الجاليات التجارية اللبنانية فى كل أفريقيا، ومثل ـ بشكل اكثر تعقيدا ـ العمولات التى يتقاضاها مسئولون من الشركات الأجنبية (ويقوموا بإعادة توزيعها على عائلاتهم أو أبناء عشيرتهم) إن غياب الشرعية عن المنطق الأول، والمبنى فى جزء منه على غربة هذا النظام و ـ أجنبيته (والمبنى فى جزء آخر على تاريخ تطبيقه المتصل بالنهب المؤسسى) يحول بشكل حقيقى وملموس دون أى تطوير لهذه النظم يستهدف إضفاء الفاعلية عليها فى حين أن غياب المؤسسية عن المنطق الأخر يجعلها تشكل عائقا أمام نمو مجتمع اقتصادى له قواعده المحددة والمفهومة ومن باب أولى فإن هذا التحليل ينطبق أيضا على مؤسسات النظام السياسى، مثلما ينطبق على معظم ـ أن لم يكن كافة ـ مؤسسات الدولة وخلاصة القول أن الدولة ـ بشكلها الحالى ـ ومنذ الاستقلال فشلت فى أن تحدث تغييرا هيكليا فى هذا الواقع فيما يسمى بالتحديث لتتفق مع ـ المثال ـ الذى انبنت عليه مؤسساتها، والنتيجة الوحيدة التى توصلت إليها هى استمرار اغترابها عن مجتمعاتها وتزايد انفصالها عنها، بما استدعاه كل ذلك من انخفاض فى قدراتها على التدخل وعلى الحركة بشكل عام، وبتقلص أو ذوبان شرعيتها الداخلية كما أن رد الفعل المجتمعى اسهم فى زيادة شلل قدرتها أو فى اختراق بعض مؤسساتها وتحويلها عن أهدافها الحقيقية لتؤدى وظائف أخرى حيوية لبقاء النظام الاجتماعى حنى وان كانت مخربة لكل من الدولة والمجتمع على المدى البعيد وهو ما يعرف بالفساد أو سياسة الأكل وما يصفه أحد الباحثين بأنه ـ انتقام المجتمعات الأفريقية من الدولة (53).
الجزء الثالث: فى نقد الدولة فى أفريقيا:
أولا: الدولة من الداخل والدولة من الخارج:
يعرف ماكس فيبر الدولة بأنها ـ أداة حكم تحتكر استخدام القوة فى إقليم محدد وتسيطر على شعب محدد (54)، وهو التعريف الذى أخذت به معظم الدراسات التى تتناول الدولة وواقع الأمر أن هذا التعريف ينطبق إلى حد كبير على الدولة الأوروبية، ولكنه يبدو ناقصا فى فهم وتحليل طبيعة الدولة فى أفريقيا فالأخيرة نشأت فى أغلب الأحيان دون أن تحتكر استخدام القوة فى إقليمها بل أن بعضها ـ مثل زائير ـ لم تستطع أن تحتكر استخدام القوة فى أى لحظة من لحظات وجودها كدولة مستقلة، كما إنها لم تكن تسيطر على شعب محدد عند استقلالها، وفى أغلب الأحيان فإنها بدأت تلك العملية لاحقا وعلى عكس الدولة فى أوربا والتى جاء ـ استقلالها ـ كاعتراف من الأطراف الأخرى يأمر واقع لا يمكن زحزحته وهو سيطرة ملك على شعب فى إقليم، فإن نشأة الدولة فى إفريقيا جاء بطريقة مختلفة ارتبطت أساسا برحيل المستعمر وتسليمه السلطة لنخب محددة غالبا ـ أن لم يكن دائما ـ لم تكن لها سيطرة فعلية داخل الإقليم العنصر الغائب عن التعريف ادن هو الاعتراف الخارجى (55)، وهو ـ فى تقديرنا ـ العنصر الرئيسى المحدد للاستقلال فى أفريقيا فمع استثناءات نادرة ـ مثل إثيوبيا ـ فإن الدولة نشأت لأن المستعمر وهو يرحل اعترف دوليا ـ وتبعته فى ذلك بقية ـ الأسرة ـ الدولية ـ باستقلال وسيادة نخبة محددة على إقليم محدد ـ غالبا ما كان هذا الإقليم محددا على الخرائط فقط ـ وعلى السكان المقيمين فى هذا الإقليم بالتبعية واستغرق الأمر سنوات طويلة وصراعات دامية حتى أمكن لهذه الدول/ النخب تحديد رعاياها (وفى بعض الأحيان لم يتم ذلك حتى الآن:ـ على سبيل المثال موريتانيا والسنغال) العنصر الحاكم إذن فى طبيعة الدولة الإفريقية هو الاعتراف الخارجى، والذى أدى غيابه ـ فى حالة بيافرا فى نيجيريا ـ إلى عدم خروجها للوجود كدولة فى حين كانت تتمتع بحكومة تحتكر السيطرة على إقليم وشعب، والذى أدى توفره إلى استمرار اعتبار زائير دولة ذات حكومة عل الرغم من أن سيطرة موبوتو لا تتخطى كينشاسا سوى بكيلومترات محدودة وهو نفس العنصر الذى يجعل عملية الانقلاب عملية مضمونة النجاح فى الدولة الإفريقية، إذ يكفى عدة جنود مزودين بالأسلحة الخفيفة للسيطرة على القصر الرئاسى وعدة مبان فى العاصمة كى تنتقل السيطرة على الدولة لنظام جديد طالما أن الاعتراف الخارجى متوفر وأوضح الأمثلة على ذلك حالة تشاد التى تتداول الأطراف المتصارعة فيها امتلاك ـ الدولة ـ بمجرد السيطرة على نيجامينا ودون أن يستطيع أى منهم أن يدعى سيطرته على الإقليم فى أى لحظة الدولة الإفريقية ـ إذا ـ هى دولة من الخارج وليست نتاجا لتطورات علاقات قوى.
داخلية.
ثانيا: الدولة إلى الداخل والدولة إلى الخارج:
لهذه المسألة ثلاثة وجوه:
الأول: إن دور الداخل ليس المشاركة المتفاعلة فى ومع مؤسسات الدولة والنظام السياسى، وإنما التلقى والانخراط، أو حتى الانسحاب (56) المقترن بالسلبية.
الثانى: تضاؤل أهمية توفر أساس حقيقى للشرعية للنظام مقابل أهمية السيطرة الفعلية خاصة على المراكز التى يمكن أن تشكل مصدرا للتهديد (الجيش والشرطة ـ القبائل والاثنيات الأخرى) أو أن تشكل موضوعا لمساندة التهديد (الإذاعة والتليفزيون ــ القصر الرشاش ـ شخص الرئيس الخ).
الثالث: أن المسئولية هى أمام الأطراف الخارجية وليس إما الداخل، وذلك يشمل أساسا الدولة الاستعمارية السابقة ممثلة فى حكومتها وفى نخبتها السياسية ككل (نظرا لطبيعة نظامها الديمقراطى الذى قد يأتى بأى من أفراد النخبة للسلطة) (57).
وأمام الدول المانحة ككل (58)، وأمام الصندوق والبنك الدوليين، ثم أخيرا أمام مراكز التأثير على الرأى العام الغربى وخاصة الصحفيين ومندوبى قنوات التليفزيون الأوروبية (59) أما المسئولية أمام الداخل فإما غير موجودة، أو بادية فى الظهور نتيجة رد فعل ضغوط خارجية (60)، وبذلك فإن هدفها هو تقديم كشف حساب جديد للخارج.
ثالثا: وظيفية مغايرة للدولة الأفريقية:
ورثت الدولة الإفريقية المستقلة وظيفة الإدارة الاستعمارية مثلما ورثت أبنيتها، وكان ذلك فى واقع الأمر جزءا من استراتيجية الدول الغربية فى عملية إنهاء الاستعمار، هذه الوظيفية تشمل تأطير شعب المستعمرة، والسماح للفاعلين ذوى التأثير فى صنع القرار (داخل الدولة الأوربية) بالعمل بحرية داخل المستعمرة (61)، والمساهمة فى النفوذ الاستراتيجى للدولة المستعمرة وكانت أدوات تحقيق ذلك هى الإدارة الاستعمارية والفاعلين المتحالفين معها (62).
وعند نقطة محددة فى تطور النظام الدولى، وفى التطورات داخل الدول المستعمرة أصبحت النفقات الإجمالية للحفاظ على الإدارة الاستعمارية أعلى بكثير من المردود الوظيفى لها وقد بدأ ذلك التطور على مراحل منذ الأربعينات وأدت الحرب العالمية الثانية لبلورته وإبرازه بشكل قاطع ولا رجعة فيه، ومن ثم بدأت موجة إنهاء الاستعمار والتى أخذت شكلا إجماليا فى أول الستينات وكانت الوظيفية الحقيقية للدولة المستقلة هى تلك التى كانت للإدارة الاستعمارية، مع فوارق فى ترتيب الأولويات حيث احتلت عملية تأطير الشعوب أولوية متقدمة مع الحفاظ على أداء الوظائف الأخرى أما الدول التى دفعتها طموحاتها القومية أو الاستقلالية إلى حد تحدى هذه الوظيفة فقد لجأت للمعسكر الشرقى حيث مكنت ظروف الحرب الباردة من إعطائها فرصة للانفصال عن وظيفتها المعدة لها من قبل الدول الغربية، ألا إنها قامت بأداء نفس المضمون الوظيفى ولكن لحساب مراكز أخرى (الاتحاد السوفييتى ـ كوبا ـ ألمانيا الشرفية الخ)، كما أن وقوع هذه الدول فى نفس مأزق الدولة الإفريقية ككل (الفشل فى تأطير مجمعاتها) إضافة إلى عجزها عن مواجهة التحديات الضخمة التى واجهتها أوصلاها لنفس النتيجة ومع انتهاء المعسكر الشرقى عادت الدول العاصبة إلى وظيفتها القديمة وقد كانت أداة الرئيسية ـ والرسمية ـ للأشراف على أداء هذه الوظيفة هى ـ التعاون ـ حيث تحولت وزارات المستعمرات فى الدول الأوروبية إلى وزارات للتعاون الدولى والتنمية، وأصبحت هذه الجهات هى المخولة بإدارة العلاقات مع المستعمرات القديمة ومع التطور فى العلاقات البينية لأقطاب النظام الدولى ظهر شكل جديد من إدارة هذه العلاقات وهو التنسيق بين وزارات التعاون فى البلدان الغربية بعضها البعض وبينها وبين المؤسسات الدولية وذلك بهدف أحكام الإطار الوظيفى للدول الإفريقية، وهو ما ترجم علانية فى شكل ـ المشروطية ـ التى أعلنتها المؤسسات الدولية كمتطلبات يمكن التنازل عنها للحصول على ثقتها ومن ثم على معونة الدول الغربية وتركزت هذه المشروطية فى البداية حول مسائل اقتصادية سياسية بما عكس ثقل وزن كل من الدولة (الغربية) والفاعلين الاقتصاديين فى التأثير على شكل الإطار الوظيفى للدولة الإفريقية، ومع تطور القوى المؤثرة داخل الدول الغربية انضمت للمشروطية كل من الديمقراطية وحقوق الإنسان بما عكس التزايد فى وزن الرأى العام الغربى ومؤسساته والمؤسسات المؤثرة عليه فى صباغة شكل الإطار الوظيفى للدولة الإفريقية.
خاتمه حول مستقبل الدولة الإفريقية:
من الصعب التنبؤ بالشكل الذى ستتخذه الدولة الإفريقية فى المستقبل، آلا إنه يمكن تحديد عاملين رئيسيين محددين لتطور هذا الشكل الأول وهو الأكثر أهمية بحكم طبيعة الدولة الإفريقية نفسها، وهو تطور النظام الدولى نفسه، والتطورات داخل الدول الغربية الثانى: هو المدى الذى يمكن أن يصل إليه التطور الاجتماعى داخل الدولة الإفريقية، ومدى احتمال تطور قوته الذاتية وقدرته على التأثير فى شكل وطبيعة نظام الحكم والدولة فيه ومن ثم يمكن تصور عدد لا نهائى من السيناريوهات حسب الاحتمالات الممكنة لتطور أى من العاملين السابقين، وكدنك للتباديل والتوافيق المحتملة بين هذه الأشكال، ولكن يمكن تصور سيناريوهين هما الأكبر احتمالا فى ظل ثبات الاتجاهات الحالب لا فى كل من النظام الدولى وداخل الدول الإفريقية هذان السيناريو هان هما:
1 ـ استمرار قيام الدواسة الأفريقية بوظيفة الدولة/ الوسيط بين سكانها وبين النظام الدولى، مع استمرار الاتجاهات السائدة دوليا والتنسيق بين الدول الغربية للسيطرة على اتجاهات تطور الدولة فى أفريقيا مما يدعم من التطور الديمقراطى فيها واستكمال إنفاذ الثقافة والنموذج الغربى فيها، وزيادة الترشيد والعقلانية نتيجة أحكام الرقابة الخارجية، مما يؤدى لتحسين جهاز الدولة وتصوير المجتمع على شكله (أو التقريب بين الاثنين لدواعى الكفاءة)، ومن ثم تبلور فى المستوى المتوسط والبعيد لدولة قومية رشيدة وتابعة، ويرتبط ذلك بتحسين ملحوظ فى مستويات المعيشة وفى احترام حقوقى الإنسان دون تحد للسيطرة الغربية
2 ـ انكسار الدولة الأفريقية على نمط ما يحدث فى الصومال الآن وانهيار ما كان يشبه المجتمع فيها، وتحولها لمادة للمساعدات الدولية ومصدرا للتهديد الدورى للاستقرار ويجب الإشارة إلى أن هذين السيناريو هين متكاملان وليسا بالضرورة متعارضين بمعنى أن الاثنين قد ينطبقان معا فى دولة على حسب ظروف كل دولة وعل حسب موقعها على الخريطة الجيوستراتيجية للنظام الدولى بكل عناصره فما يحدث فى الصومال على سبيل المثال يصعب تصور حدوثه فى السنغال أو الجابون أو إثيوبيا، وهى ثلاث دول تختلف أهميتهما من حيث النوع: الأولى بسبب التأثيرات التى تمارسها على الداخل الفرنسى، الثانية بسبب أهميتها الاقتصادية لشركات البترول أساسا، والثالثة لأهميتها الجيوستراتيجية، ألا أن ذلك لا ينفى إمكانية تبلور سيناريو يقع على نقطة ما بين الاثنين أو تبلور سيناريو مخالفا إذا ما تطورت المحددات بشكل مغاير.