أخبار

صحيفة الخليج:“حركة الحر” الموريتانية تتصارع على “الزعامة”

بدأت الخلافات تعصف ب “حركة الحر” الموريتانية، وهي الحركة السياسية والحقوقية التي تمثل واحدة من أكبر شرائح المجتمع الموريتاني (الحراطين) العرب السمر . وانطلق الصراع لأول مرة حول “الزعامة” داخل الحركة وخرج للعلن خلال الأسابيع والأيام الماضية، مؤذناً بتحول كبير في توجه الحركة، فيما تترقب النخبة الموريتانية نتائج هذا الصراع، في ظل مخاوف حقيقية من أن تؤدي توجهات بعض أقطاب الحركة إلى زعزعة السلم الأهلي في البلاد .

كانت “حركة الحر” قد أسست سنة ،1978 من طرف مجموعة من شباب “الحراطين” (العرب السمر) بهدف محاربة العبودية في أوساط الشريحة ورفع مكانتها داخل المجتمع والدولة .

ومنذ تأسيسها قبل 32 سنة، تصدر مسعود ولد بلخير، قيادة الحركة مسلحا بخطاب ناري ضد الاسترقاق، وضد تهميش “الحراطين” في وظائف الدولة .

ورغم انقسام قيادات وأنصار الحركة أيديولوجياً إلى حركات (يسارية، بعثية، ناصرية، إخوانية، فرانكفونية، مستقلة)، وتوزعها بشكل ذكي بين الموالاة والمعارضة، فقد ظل مسعود ولد بلخير اليساري والتوجه، مسيطراً، وبلا منازع، على زعامة “الحر” طوال العقود الثلاثة الماضية .

وكان ولد بلخير أول المنحدرين من شريحة “الحراطين” يتولى منصب وزير في الحكومة، وأول مرشح رئاسي أسمر، وأول من تولى رئاسة حزب سياسي ووصل إلى رئاسة البرلمان (المنصب الثاني دستوريا في الدولة) .

وعرف ولد بلخير بخطابه البالغ الصراحة، والجارح ضد “حواضن العبودية” وضد الأنظمة التي حاولت التضييق على حركته ومساعدة منافسيه في كسب ولاء الشريحة .

إلا أن كل تلك الجهود فشلت فشلا ذريعا، وظل ولد بلخير “الزعيم” بلا منافس والمعبر عن معاناة وآمال آلاف “الحراطين” الذين وجدوا في خطابه تعبيراً صادقاً عن مشاعرهم وإحساسهم بالغبن والاستغلال اجتماعياً وعلى مستوى الدولة .

وفي نهاية التسعينات سوّق نظام ولد الطايع أن خطاب ولد بلخير ك”خطاب عنصري” ضد العرب البيض، فقام ولد بلخير بخطوة ذكية حيث أعلن التحالف مع الحركة الناصرية الموريتانية، وغيّر جوهرياً طبيعة خطابه ليبقى خطاباً تحررياً وثورياً ولكن في حدود قيم الأمة وعروبتها، وما يجمعها لا ما يفرقها .

وخلال الانتخابات الرئاسية ،2007 كان من الواضح للمرشحين الرئاسيين أن حسم الشوط الثاني من الانتخابات يتطلب تأمين دعم ولد بلخير نظرا لتماسك حزبه وشعبيته، وهكذا قام ولد بلخير بالتخلي عن رفيق دربه أحمد ولد داداه ودعم المرشح الرئاسي وقتها سيدي ولد الشيخ عبد الله الذي نجح وأصبح رئيساً للبلاد، وذلك وفق “صفقة سياسية” مكتوبة حصل بموجبها حزب ولد بلخير على رئاسة البرلمان وأربع حقائب وزارية وحصص أخرى في الإدارات .

وكان لتوزيع ولد بلخير لحصته الحكومية بشكل لم يراع التوازن الدقيق داخل قيادات الحركة، دور رئيسي في انتشار فيروس الخلاف بين الزعيم وكبار رفاق دربه .

يضاف لذلك تمكن عملاء الموساد في سفارة “الكيان” الصهيوني بنواكشوط وقتها من تجنيد ناشطين في الحركة رداً على موقف “الزعيم” ولد بلخير الذي كان يتصدر مناوئي التطبيع ورفع بقوة مطلب قطع العلاقات الموريتانية مع “الكيان” الصهيوني .

وأدى دخول “إسرائيل” في هذا الملف المعقد سياسياً واجتماعياً إلى توحيد قياديين في الحر لخطابهم مع منظمة “أفلام” (حركة قوات تحرير الأفارقة الموريتانيين)، وهي الحركة المخلقة في كواليس الموساد منذ الستينات، والتي تروج لعدم عروبة “الحراطين” وكونهم أفارقة تم تعريبهم بالقوة وأخضعوا لنير العبودية طوال قرون، وصيغ ذلك عبر حملات سياسية وإعلامية محمومة بهدف التأثير في قناعة القواعد الشعبية ل”الحراطين” المتمسكة بهويتها العربية .

ووصل الخطاب التحريضي إلى منتهاه، لغوياً على الأقل، في بث البغض والعداوة لكل ما يتعلق بالعرب والعروبة والإسلام، حتى بلغ الأمر بقيادات من “الحر” والأفارقة حد الجهر في مجالسهم بعداء للقضية الفلسطينية، وعلناً عبر وسائل الإعلام نقد الاهتمام الموريتاني بالقضية الفلسطينية والتفاعل مع محنة سكان قطاع غزة ومساواة حاخامات اليهود بعلماء شنقيط .

ونتج عن ذلك بروز جناح جديد في “حركة الحر” أطلق أول دعوة للتفريق بين العرب السمر والبيض عرقياً وسياسياً ومذهبياً، وخطط لجعل المخلفات الاقتصادية والنفسية للرق في موريتانيا كجرم أخطر من العبودية ذاتها .

وأطر هذا الجناح لاستخدام العنف وقيام ثورة شعبية في البلد تطيح حكم العرب البيض، ودعا إلى اعتبار “الحراطين” قومية مستقلة عن القومية العربية، وإلى التحالف مع الأقلية الإفريقية في البلاد لوضع حد لهيمنة ما يسميه “العرب البربر” .

وبنى هذا الجناح خطابه على أساس أن “الحراطين” لا يزالون أرقاء، مستغلا معاناة الأغلبية من أبناء الشريحة من الفقر والبطالة والتهميش، ومتخذاً من ممارسات العبودية السابقة “هلوكستا” جديدا، وركز على النزاعات العقارية، وعدم التوازن الشرائحي في جهاز الدولة .

وعبر ذلك حاول هذا الجناح إعادة صفوف “حركة الحر” للعمل كحركة سرية وعلنية في آن معا . وقد شكل الطرح الجديد مفاجأة غير متوقعة للساحة الموريتانية التي وقفت مندهشة إزاء ما يجري باعتبار أنه نتيجته المحتمة هي الحرب الأهلية وتقسيم البلد إلى دويلات لن تجد في سعة الصحراء ما يغذي أنفاسها المخنوقة .

وفي هذه الأثناء خرج الزعيم مسعود ولد بلخير عن صمته معلنا رفضه لعودة “حركة الحر” كون أسباب العمل السري قد انتفت في ظل الديمقراطية وحرية التعبير المتاحة للجميع، وفي ظل تبني كل القوى والأحزاب السياسية الأخرى لمطالب الحركة في محاربة آثار الاستراق .

وهدد ولد بلخير باتخاذ إجراءات رادعة في حق التيار الجديد المنادي بعودة حركة الحر، ونظم أياما تفكيرية لحزبه أعلن في ختامها أن الخلاف قد انتهى وأكد تماسك وحدة الحزب، لكن كانت مطامح المنافسين أقوى من أن توأد باجتماعات سياسية وترضيات ظرفية عابرة .

وهكذا بالفعل دخل التنافس على خلافة ولد بلخير، مرحلة متقدمة، فقد رصدت المخابرات الموريتانية اجتماعات سرية لبعض قادة وخلايا حزب التحالف خلال الأشهر الماضية، تم فيها مناقشة موضوع خلافة “الزعيم” مسعود على أساس نقطتين: الأولى أنه بات شيخا طاعنا في السن وعاجزا عن أداء النشاط المحموم المطلوب بالنسبة للحركة .

والنقطة الثانية هي اتهام ولد بلخير وغيره من زعامات تاريخية بالتخلي عن أهداف الحركة والتركيز على الهم العام للدولة والمجتمع، ما يعني أن الحركة ستصل إلى الحكم ببطء شديد لا يلبي طموح القيادات المنافسة التي ترى أن المرحلة الحالية تحتاج إلى رجال قادرين على استغلال الوضع الدولي والداخلي ومواجهة المجتمع والتحرر من أدبيات المراحل السابقة وطرح خطاب جديد يمكن الشريحة من الوصول للحكم عن طريق انقلاب عسكري أو ثورة شعبية .

وقد ظهر بقوة اسم القيادي النقابي البارز الساموري ولد بي، والذي يمسك بملف “النقابات” العمالية وهي القوة الضاربة لحركة الحر، كأحد أبرز منافسي ولد بلخير، والمهيأ لخلافته دون تجاوز أحلام الكثير من القيادات الأخرى التي حاولت الظهور إعلامياً خلال السنوات الخمس الأخيرة .

ونظر ولد بي خلال الفترة الأخيرة للفصل بين حزب التحالف الشعبي التقدمي الذي يرأسه ولد بلخير وبين “حركة الحر”، لكن النشاط السري للرجل داخل أوساط الحركة، ونفوذه المتزايد في جناحيها الحقوقي والنقابي أصبحا محل رصد دقيق من قبل النظام الموريتاني الذي بات يرى في ولد بي الزعيم المستقبلي للشريحة بينما لم يعد ولد بلخير إلا صورة من الماضي الجميل .

ولتعزيز مكانته سياسياً وجه الساموري ولد بي رسالة مثيرة للجدل إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون تدعو لتدخل المنظمة الأممية في موريتانيا لتغيير الدستور الموريتاني حتى يتم تصنيف شريحة “الحراطين” كشريحة غير عربية، وأعقب ذلك بخوض مواجهات مع السلطة من خلال ما عرف الأشهر الماضية ب”ثورة الحمالين” التي حولت شوارع نواكشوط إلى مواجهات ساخنة بين قوات الأمن وعشرين ألف حمال ينتسبون للنقابة العمالية التي يقودها ولد بي، وهي أكبر نقابات الشغيلة في البلاد .

وهنا ظهر أن “التنافس” بين قيادات “الحر” وصل إلى حد لا يطاق، فقد بادر أنصار ولد بلخير إلى الرد بمقال حمل عنوان “لا تناطح الجبال يا ساموري” وقعه الحسن ولد محمد، عضو المكتب التنفيذي لمنظمة الشباب ب”حزب التحالف الشعبي التقدمي” .

وقال ولد محمد إن مسعود ولد بلخير ولثقته المطلقة برفاق دربه مكّن الساموري ولد بي من صلاحيات واسعة وأوكل إليه مهام حزبية من بينها أنه كلفه بالتفاوض باسمه مع الناصريين وتسوية بعض المشاكل الحزبية .

وكشف أنه في سنة 2007 “شكلت هذه المرحلة تغيراً عجيباً حيث بدأ الساموري يستغل تلك الصلاحيات استغلالا مريبا” فقام بالدعوة لاجتماع حركي من دون الرجوع للرئيس مسعود ولد بلخير، ووجه تعليمات لمجموعة من شباب الحزب لكتابة شعارات على الجدران فيها تنديدا بما يمارس اتجاه شريحة “الحراطين” من إقصاء وتهميش، مضيفا أن وجه الغرابة في هذا التصرف هو أن الجميع يعلم ما قام به نظام ولد الشيخ عبد الله من جدية اتجاه ملف العبودية ومحاربتها .

وقال إن مسعود واصل “في غمزه وهمزه وإيحائه وتلميحه للساموري للكف عن هذا النوع من التصرفات إلى أن اضطر إلى الخروج إلى وسائل الإعلام والتوجيه صراحة بالكف عن تلك الممارسات” .

وأضاف “منذ تلك الفترة بدأ الساموري بين الفينة والأخرى بالدعوة لاجتماعات حركية تحمل في طياتها نوعا من الثورة وشق عصا الطاعة في طابع غير مفهوم حتى من طرف من يجتمع بهم والذين عندما ينفضون يقومون بالسخرية من تلك الألاعيب المكشوفة” .

وأكد أن الرئيس مسعود “استخدم كل أنواع أساليب الحكمة والحلم ليعود رفيق دربه إلى رشده لكن الساموري ظن أن ذلك الصبر والتعامي شيء آخر وأنه يفوت على الرئيس “سحوة النملة” التي يمارسها فواصل لعبة التمادي في قالب آخر حيث قام بخرجة أخرى في الانتخابات الأخيرة (التي حصل فيها مسعود على دعم شيوخ “البيضان”)،

وقد تمثلت هذه الخرجة في تصريح قال فيه الساموري إن “البيضان” خدعوا مسعود ولد بلخير في الانتخابات الأخيرة حيث إنهم لم يصوتوا له في هذه الانتخابات” .

وقال “عندما يقوم الساموري بعد الانتخابات بزرع الشك والريبة بين هؤلاء ومسعود فماذا ينشد بذلك إلا نوعا من اللاثقة وأن يقلب تلك المكانة السامية التي اكتسبها الحزب بفضل حكمة زعيمه رأساً على عقب فيبدو كمن هو حزين على ما تعرض له مسعود، إنها لمسرحية سيئة الإخراج والتصوير وما كانت لتنطلي على أحد” .

وواصل ولد محمد تحذيره للساموري قائلا “إنك بهذه الشطحة وغيرها ترتكب أخطاء غاية في الفداحة وأقول لك وللمرة الألف إنك مكشوف في نوايا وأطماع ومآرب أقرب إليك منها نجوم السماء” .

واعتبر أن الكيل قد فاض وأن الساموري يشوه النضال الذي تراكم لسنين والذي يعود الفضل فيه إلى مسعود .

وبعد يوم واحد من صدور مقال ولد محمد، أصدر شباب “حزب التحالف الشعبي التقدمي” بياناً اتهم فيه الساموري ولد بي بمحاولة النيل من “الزعيم” مسعود وطالب بمعاقبته .

واتهمت منظمة شباب الحزب الساموري ولد بي بشن حملة دعائية مغرضة ل”تشويه رمز الحزب وزعيمه مسعود ولد بلخير” .

وقالت إن تصريحات ومبادرات ولد بي المريبة ومراسلاته لأطراف أممية خارجية شكلت “صدمة كبيرة لدى كل المتتبعين للمشهد السياسي”، وأنها تتنافى وقناعة الحزب كحزب لجميع الموريتانيين مهما كانت انتماءاتهم الاجتماعية، وتتعارض مع منهجه في تحقيق الوحدة الوطنية .

واتهمت الساموري ولد بي بالقيام بمساع “لتخريب الحزب من خلال إنشاء تجمعات على أساس زبوني وعرقي وقبلي داخل صفوف بعض المناضلين” .

ونددت شبيبة الحزب “بتصريحات وتصرفات الساموري ولد بي “التي تحمل في طياتها بوادر المؤامرة”، وطالبت الهيئات العليا للحزب باتخاذ الإجراءات العقابية ضد هذه المخالفات المشوهة لقيم الحزب ومبادئه ونضاله الشريف” .

وفي تطور جديد في هذا السجال، خرج عبد الله العتيق ولد إياهي، القيادي الناصري المعروف، والعضو القيادي بحزب التحالف، والذراع الإعلامي لولد بلخير بتصريحات طالب فيها مسعود ولد بلخير بالاستقالة من الحزب والنأي بنفسه عن المؤامرات التي تحاك في كواليس الحزب ضده .

وقال ولد إياهي إن مسعود ولد بلخير أكبر من حزب التحالف الشعبي ومن المتآمرين عليه في الحزب، ويجب أن يسمو على تلك المؤامرات، ويكون قائدا لحزب جديد يقوم على أسس وطنية وليست طائفية .

ولا يستبعد مصدر من داخل الحزب أن تتفاقم أزمة حركة الحر جراء التنافس على القيادة لتصل إلى خروج الساموري ولد بي وجناحه من حزب التحالف الشعبي وتأسيس حزب سياسي جديد أو الانضواء في حزب قائم لمنافسة ولد بلخير، بينما أمام هذا الأخير، الذي لا يزال يلتزم الصمت حتى الآن، العديد من الأوراق ليلعبها ومن بينها عزل الساموري ولد بي من الحزب وإطاحته من قيادة الاتحادية الحرة لعمال موريتانيا التي يدين أغلب أعضائها لولد بلخير .

وفي هذه الحالة من شبه المؤكد أن تقسيم التركة السياسية لحركة الحر سيؤول إلى جناحين متصارعين:

الأول عروبي التوجه ويقوده ولد بلخير و”الأوفياء” لنضاله مدعوما بالحركة الناصرية الموريتانية، والثاني يقوده الساموري ولد بي، وسيكون أكثر صدامية مع هوية الدولة ورموزها والعلاقة بمكونات المجتمع الموريتاني .

ولا تفوت الإشارة إلى أن كبريات الأحزاب الموريتانية ترقب بشكل دقيق مسار الخلافات على زعامة “حركة الحر”، ليس لتأثير هذه الخلافات في الشأن السياسي العام للبلد فحسب، بل لاعتبارات سياسية آنية متعلقة بموازين القوى الانتخابية . خاصة بعد انطلاقة العد التنازلي للانتخابات البرلمانية والنيابية الحاسمة (نوفمبر/تشرين الثاني 2011)، ولسان حال تلك الأحزاب يقول: من الذي لا يفرح بانقسام منافسيه .

على أن النظام الموريتاني الذي يرقب الصراع على الخلافة في “حركة الحر” يرجح أنه سيكون المستفيد الأكبر من إضعاف أحد أكبر معارضيه .

– صحيفة الخليج – المختار السالم

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button