مقالات

مفارقات الزمن الأسود.. كيف نحيي صدام؟/الهادي حامد – تونس

من مات مات..ولاتبعث الأموات إلا بقدرة الله جل جلاله. وفي الآن الذي يشاء. فالموت فراق وليس أكثر من هذا..قال والدي المرحوم قبل ليلة من رحيله، وبعد منتصف الليل، ردا عن سؤال : ماالذي يؤلمك؟، إن مايؤلمني ليس المرض، وليس الموت، إنما فراقكم لي…تأملوا هذه الكلمات..هل اكتشفتم فيها شيئا؟؟..نحن نقول عن الميت انه رحل..ولكن في الحقيقة نحن من رحلنا..أما هو فرحيله توقف في المكان والزمان..ليس من فارق هو من مات..إنما من استمر في الحياة ومضى فيها…الدلالة العميقة الثانية من هذا القول الملآن بالحكمة : أن الألم ليس هو المشكلة من زاوية الموت، وان الموت ليس هو المشكلة من زاوية الفراق..وان الفراق هو المأساة التي تثقل على الإنسان..انه خاتمة حياة جدير بها أن تحمل عنوان اللقاء بالإنسان..طالما أن اللقاء يتلوه فراق.

ماذا حدث للمرحوم صدام حسين وهو ليس معنا في رحيلنا؟..لقد فارقناه..وقد دخل منطقة ليس فيها مكان ولازمان..بينما أخذنا معنا المكان والزمان..وأخذنا بعضنا معا. هل تتذكرون الرجل الذي فارقتموه؟..ذلك الرجل..صاحب الهامة..والنظرة الثاقبة الصافية..والحركة القليلة سواء في جلوسه أو وقوفه..في كلامه أو صمته..ذاك الذي يتكلم بعمقه..والذي لايكون أمامك إلا بوصفه حضارة امة في أنبل صورها وقيمها وأمجادها..صدام ذو الاميلين (الحاجبين والشاربين)..الذي يحيرك ويلهمك عمقا حتى لو تصنعته…رجل مثله يبهرك بثقافته ودقته ومعجميته الفذة وتجريده الذهني المثير..فيه الشاعر والنبي والفيلسوف والزعيم السياسي والمربي والقائد العسكري ورجل القضاء وسجية الإنسان العربي البسيط وعاطفة قطرات الندى على ورق الورد وحسم النسور وشجاعة عمر المختار وصبر أيوب ووعد الله.. بان الأخيار والأبرار لفي نعيم!.

كلكم يذكره في اجتماعاته مع ضباط جيشنا العراقي الباسل، في نشرة أخبار تلفزيون جمهورية العراق، ونذكره في خطبه في المناسبات الوطنية الكبرى، وتذكرونه في أشياء يومية تعرفونه فيها صدام الأب والإنسان..نذكره ذات مساء من أيام العدوان السوداء وهو يتبختر ببزته العسكرية في احد الشوارع والبسمة لاتفارقه..اذكره حينها لما تجمع حوله الناس..واذكر أن البعض كان يقبل ظهره وأكتافه.. كان يشد من أزر شعبه وشعبه يستمد منه الإيمان بقضاء الله والصبر على حمله وتحمله..بعض شعبه قاتل معه الغزاة جنبا إلى جنب..وهو شرف عظيم لمن توفرت له هذه الفرصة الخالدة التي لاتتكرر في العمر..رئيس دولة يقود معركة المطار ويلقى الغزاة في منازلة الإيمان مع الفولاذ…بربكم أي رئيس يفعل هذا..؟؟!!..وأي رئيس يمتلك روحية هذا ويمتلك إيمانه وتواضعه وقيمه القيادية ورجولته..؟؟!!..نذكره وهو يتحدى عصابة المحكمة..ويبتسم لما يكون فيه داع للابتسام..وهو يتحدى باعتباره يقاوم وباعتباره يقف في مواجهة الغزو آنذاك…اذكره في إحدى خطبه أيام الحصار وهو يقول لشعبه إن جرحا يصيبكم يصيب روحي ..والعرب وحدهم يعرفون مقدار وجع الروح وسخف وجع الجسد حين يقارن به!…

وما اذكره لوحدي وقليل من الأصدقاء هو التالي:

يوم دخول الغزاة بغداد وإطلاق المليشيات للعبث بمؤسسات الدولة العراقية..خرجت في المساء إلى وسط المدينة..والتقيت ببعض الأصدقاء..فقال احدهم وكان مناضلا ناصريا..أيام الجامعة على الأقل.. إن صدام هرب إلى روسيا..ومأساتنا نحن الجماهير العربية أننا نربط مصائرنا برؤساء لايجلبون لنا إلا النكسات والخيبات ..بينما كنت ارفض هذا التحليل رفضا قطعيا..رغم غياب المعطيات الصحيحة.. والسبب أني كنت متابعا لصدام أيام الحصار ولسنوات..وانه لي كل ليلة طلة على نشرة أخبار تلفزيون العراق..وكنت استمتع بمايقوله وما يفعله..فصرت مؤمنا بأنه الرجل الذي لايخون ولا يهرب ولا يجبن ولا يبيع أيا كانت الظروف..(خلال فترة الحصار كتبت بعض المقالات نشرت في مجلة كتابات معاصرة الصادرة في بيروت مستوحاة من رمزية الصراع الذي كان يخوضه العراق آنذاك) وكان بيننا صديق ثالث سبق وان درس في العراق وتلقى تدريبا في جيشه البطل دون أن يشارك فعليا في الحرب مع الفرس..وقد اعترض بدوره على مزاعم هذا الأخ الناصري ووجدت في اعتراضه بعض اليقين الإضافي لأنه اعلم مني بشخصية العراقي عموما وبشخصية صدام على وجه الخصوص.

العبرة : أن الرجل، رحمه الله،ماكان هو هدف الغزو، بل كانت إسرائيل. وهو ضمن الأهداف/الوسائل، أي الأهداف التي تسمح بتحقيق أهداف أهم واكبر. ورغم ذلك دفع ثمنا قلما دفعه عراقي آخر: فإضافة إلى مواقعه الدستورية، فقد حقه في الحياة، وحق ابنيه وحفيده في الحياة، وحق أسرته في العيش معا وبأمان، وفوق هذا، فقد حقوق آلاف مؤلفة من شعبه في الحياة، وحقوق ملايين من شعبه في العيش الآمن والكريم، وحق آلاف من أمته في الحياة وفي العيش الآمن والكريم..بعض مافقده فقده لوحده والبعض الآخر ثمة من اشترك معه في فقدانه..والنتيجة انه أكثر من ضحى!.

لكن ماذا لو لم نرحل ونترك صدام خارج المكان والزمان؟ ماذا لو رحلنا معا عبر المكان والزمان؟ ماذا لو لم يحصل الغزو ولم تحدث المأساة التي نرى تبعاتها وتمظهراتها في أوجها الآن؟

في هذه الحالة : ماكنا لنرى عراق العصابات. ماكنا لنرى عراقيين وغير عراقيين يقتلون العراقيين ويهتفون : انصرنا عليهم ياعلي!!..يدعون عليّا لنصرتهم على عوائل محاصرة في بيوتها وإحيائها بلا ذنب إلا لكونهم مدرجون في قوائم التصفية التي أعددتها المخابرات الإيرانية..!!..ماكنا لنرى أئمة الجوامع يسحلون وتسلخ رؤوسهم وتبقر بطونهم لأنهم من أتباع “الملعون” عمر..!!..ماكنا لنرى اللقاءات الديبلوماسية تدار تحت علم إيران وفي غياب علم الله اكبر العراقي..!!..ماكنا لنرى جنون المجانين على أسماء..وسيلان الدماء انهارا..لان أسماء معينة مدانة بصفتها أسماء..!!..ماكان طيارو جيش العراق البطل وعلمائه وكفاءاته وكفاءات مدنية طبية وعلمية يتم اصطيادها كالضباء في خلاء..حيث لامعترض ولا مجير.!!..ماكنا لنرى عدالة المنحرفين والمكبسلين والقتلة والحاقدين في بلد كان سباقا في القضاء والقانون منذ فجر التاريخ..!!

وفي هذه الحالة الافتراضية طبعا، ماكنا لنرى عباس يتوسل لأمريكا طيلة شهور كي توقف إسرائيل بناء المستوطنات، وبعد اقتناع أمريكا بايجابية هذا الطلب، تنخرط بدورها في التوسل لإسرائيل لشهور أيضا، وبعد شهور وشهور..وبناء المستوطنات جار على قدم وساق..تعود أمريكا إلى عباس وتعلمه أن إسرائيل تريد مفاوضات بدون شروط…بعد شهور وشهور أخرى..يقول عباس انه بإمكانه أن ينسحب من الرئاسة..وكلمة إمكاني… تحتاج إلى سنوات كي تنضج..فربما تسقط عند النضوج ولا تجد من يلتهمها..وربما تفسد ولن تكون صالحة للاستهلاك!!.

لو لم يحصل غزو العراق سنة2003 لصار اليوم فاعلا ومشعا..ولما تجرأ عباس أن يفتي لبناء المستوطنات عن غير حق واستحقاق..بل ماكان يتجرأ على قتل عرفات رحمه الله..لان إدارة علاقة مع الصهاينة بهذا المستوى المهين لن يكون سهلا في ظل عراق قوي ومهاب.

لو لم يحدث ماحدث، ولو كان صدام بيننا اليوم، ماكانت إيران تمضي في خلق أوراق لها في الدول العربية تستحقها عند الحاجة..آخر نجاحاتها هو نجاحها في تأسيس أتباع لها في تونس، أن حدثتهم يقولون نحن أخوة وأهل وجميعا مسلمون وان إيران دولة جارة ومسلمة وقوية وهي حامية للأمن القومي العربي…وان راقبت ماينتجونه تجدهم يسبون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضعون شروطا للمتعة ويطلقون سبابا على مايسمونهم النواصب ويلعنون الشهيد صدام…فتحتار في أمرك!!.. احدهم وهو ممثل لجمعية حقوقية تونسية اسمها الزيتونة(يمثلها بشكل غير رسمي وفي فضاء افتراضي) انطلق في سرد أسماء علماء عرب قدامى موضحا لي أنهم فرس، ثم أمدني بقائمة طويلة من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يؤيد فيها خلافة علي وأحقيته بالإمامة، وصحة أطروحة الإمام المنتظر..!!..هذا المد الفيروسي الخبيث، المستمر والتراكمي والمستعجل من أمره إنما هو مد مخابراتي إيراني يرمي إلى استقطاب عملاء وجواسيس، تنظيمهم وهيكلتهم ودعمهم ماليا وسياسيا ليكونوا ليس فقط مصدرا للمعلومة، بل قوة ضاغطة عند اللزوم..تماما كما هو في لبنان والبحرين والسعودية والمغرب واليمن..

يعني أننا أمام غولين: غول اسمه إسرائيل، وغول اسمه إيران. أيهما أكثر حقدا على الهوية العربية..؟.. صدقوني لااستطيع أن أجيب!!..

من نتائج غيابك ياصدام…ألف رحمة عليك أيها البطل..مايحصل اليوم لليمن” السعيد”..ومايحصل للسودان العربي..أما عن اليمن..فأظافر إيران تمزقه اربا اربا..أمواج بشرية عقائدية تدين بالولاء لها تعلن الحرب على البلد وتندمج مع الانفصاليين القدامى وتمضي في مشروعها التخريبي الذي يبدو أنها نجحت في مستواه الاجتماعي لكنها تلقى مقاومة في مستواه السياسي وعلى الأرض. هنا انصح بإطلاق يد القاعدة في مقاومتهم..دعو القاعدة تقضي عن هؤلاء الجراثيم..لاتثقوا في الطرف الأمريكي ومشاريعه المتناغمة مع المخطط الإيراني..يقلقني كثيرا كثيرا أمر تبعية النظام اليمني للأمريكان وتنسيقه معهم في مايعرف بالحرب ضد الإرهاب..أمريكا ليست ضد أتباع إيران..لكن أتباع إيران ضد وحدة اليمن وضد عروبته.. مصالحنا تتعارض مع مصالحهم..ولن نفرط في مصالحنا لأجل مصالحهم..فلتمضي أمريكا في محاربة إرهابها بعيدا عنا..ولنقاوم نحن مايهدد هويتنا ووحدتنا أولا وأساسا…هذا رغم الود الذي نكنه لعلي عبد الله صالح لقاء مواقفه المشرفة من قضية العراق.

بالنسبة للسودان..هل سيظل صدام يتفرج على السودان وهو بصدد التشكل في دولتين لوكان حيا..ولوكان العراق قويا كما كان مفترضا أن يكون..؟؟..هل سيظل يتفرج وهو يعلم عليم اليقين أن انفصال الجنوب وتأسيس دولة على ارض الجنوب مشروع أمريكي صهيوني تاريخي بامتياز..؟!!..هل سيظل يتفرج وزعماء الانفصاليين يعلنون أمام العالم أنهم سيفتحون سفارة إسرائيلية حال الانفصال..وان أول سفارة ستكون سفارة إسرائيل..وان إسرائيل عدوة للفلسطينيين وليست عدوة” لشعب “دارفور؟!!..هل سيقبل ضباط الحرس الجمهوري العراقي البطل بهذا..؟!!..حين يتعلق الأمر بنا : تصبح كل قرية وكل مدينة وكل حي وكل شارع له حق تأسيس دولة مستقلة وديمقراطية، تعترف بها منظمة الأمم المتحدة والغرب وتنظم لها مؤتمرات مانحين ويسوى لها دستور وعلم ونشيد وطني وانتخابات..؟؟..لماذا..؟!!..لماذا نحن فقط هكذا..؟؟!!..فلي-

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button