طغيان باسم الوطنية واستبداد باسم الثورة*
ليس من حق أحد أن يصادر حريتك في التعاطف مع ميتٍ أو الترحم عليه، بصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف مع ما يمثله، أو يحمله من أفكار، ذلك أنه بموته صار في ذمة الخالق وحده، هو الذي يقرّر مصيره في العالم الآخر.شخصيًا أتألم لفكرة الموت نفسها، بوصفها اقتلاعًا وإجهازًا على حياة إنسان، بعيدًا عن الاختلاف أو الاتفاق معه، وترعبني فكرة الشماتة والتشفّي في ميت، ويزعجني أن يبدأ أحياء في محاسبة الموتى، قبل أن تستقر جثامينهم تحت الثرى، غير أنه مزعجٌ كثيرًا أن يتم استثمار وقائع موت مؤلمة لشخص في إضفاء قداسة على أفكاره، أو منحها جدارةً واعتبار الاقتراب منها بالنقد أو بالرفض نوعًا من الشماتة أو التشفي.
فلنترك الراحلين لمن أنشأهم أول مرة ثم استعادهم، أما إذا أصرَّ فريقٌ من الناس على فرض ما كانوا يروّجونه من أفكار وقيم على موائد النقاش العام، فمن حق أي فريقٍ آخر تقييم هذه الأفكار ونقدها ورفضها أو القبول بها، من دون إهانةٍ أو استئسادٍ على روح عادت إلى بارئها.
هذه، من المفترض، أن تكون بديهيات بسيطة في تناول أي موضوع مطروح للنقاش العام، غير أنه غالبًا ما يحدث أن يتحوّل الأمر إلى نوع من الممارسات الاستبدادية المخيفة من المتعاطفين وغير المتعاطفين، حتى تصل الأمور أحيانًا إلى التكفير والتخوين المتبادل، كما هو حاصل في مسائل عدة، تلخصها قضيتان مفروضتان على الجمهور في هذه الآونة، إحداهما وطنية، تتجسّد في موضوعي إدارة السلطة المصرية لملفي ليبيا وسد النهضة..والثانية إنسانية ترتبط بملابسات وفاة مثلية، غادرت مصر، بعد تجربة اعتقال وقمع وتعذيب، إلى كندا.
الموضوع الأول، لم يجد جمهور السلطة القمعية المستبدة فيه سوى مناسبة لتخوين كل من يناقش أو ينتقد الأداء المشين للسلطات المصرية في التعاطي مع الملف الليبي وملف سد النهضة، وبالتالي أنت في نظر السلطة ومؤيديها لست على شيءٍ من الوطنية، لأنك لم تبصم بالموافقة على العبث الذي تمارسه سلطة مجنونة، أو بالحد الأدنى أنت شامت في بلدك ووطنك .. إلى آخر هذا القاموس البائس من التفاهة والسطحية.
كذلك، في الموضوع الآخر، موضوع الحريات الشخصية، يستبد الشطط ببعضهم إلى حد اعتبارك لست ثوريًا مستنيرًا، إن لم تعلن تأييدك للدفاع عن المثلية الجنسية التي تراها أكثرية الناس، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، وعمق هذه الانتماءات، ابتعادًا عن الفطرة والطبيعة البشرية، فإن لم تؤيد فليس أقل من أن تخرس وتبتلع لسانك ولا تعقب، حين تجد شعار المثلية مقحمًا بقوة الابتزاز الصفيق على قضايا إنسانية ووطنية حقيقية، والويل لك إن لم توافق على الحزمة كاملة.
وكأنه لا يكفي أن تتألم لموت الشخص وتتمنى أن يعامله الله برحمته، بل عليك أن تقر وتعترف وتبجل ما كان عليه قبل موته، و مثلما يتم تمرير ميزانية الجيش رقمًا واحدًا داخل البرلمان من دون تفصيلات أو نقاشات، يريدون تمرير أو تهريب المثلية الجنسية داخل حاويات الدفاع عن الثورة والديمقراطية، ليكون مفروضًا عليك في النهاية الرضوخ لفكرة، يراد اعتمادها، مضمونها أن المثلية ثورة.
وهكذا تجد نفسك تحت حصارين: سلطة مستبدة، ومعارضة مستبدة، الأولى تبتزّك باسم الوطنية والاستقرار، والثانية تبتزك باسم الثورة والحداثة، ليصل الأمر بواحد مثل محمد أبو الغار لكي يربط بين مشروع الفتاة المثلية ومشروع طه حسين.
مرة أخرى، هناك فرق بين أن تتعاطف مع شخص، بل وتهاجم بضراوة قسوة التشفي والشماتة في موته وأن تفرض على الناس التعامل معه بوصفه أيقونة ثورية ونضالية، ومع معتقداته وأفكاره باعتبارها ضربًا من الإبداع الإنساني والأخلاقي، وأن تفرض رحيله موضوعًا أول في أجندة الثورة والإنسانية.
باختصار نحن بصدد إهدار للطاقة الروحية في معارك تتكرّر بالمفردات والوجوه ذاتها، وكما قلت سابقًا لا تبددوا إنسانيتكم في مبارزة الموتى، مهما كانوا في حياتهم، فالمعركة مع أوغاد على قيد الحياة، يستثمرون في التوحش، ويضاربون في بورصة الانحطاط والوضاعة، ويغرقون الناس في ظلمات البذاءة.
*وائل قنديل