موريتانيا إلى أين ؟*
لا يخفي بعض جنرالات موريتانيا المخضرمين ضجرهم من الغرق عميقا في لجة السياسة ولعبة الحكم؛ وأتحدث هنا عن جنرالات مخضرمين يعدون على أصابع اليد الواحدة ؛ يتحدثون بمرارة عن فشل النخبة المدنية الوطنية في تحمل مسؤولياتها وإثبات ذاتها .
هم جمهوريون حتى النخاع ؛ يرفضون فكرة الانقلاب ؛ ويضطرون لمسايرة كل انقلاب حتى لا يتحول لعامل تفجير داخلي أو إقليمي للبلد كما شرح أحدهم لي ذلك بإسهاب.
لقد كانت قصص الرئيس السابق السيد محمد ولد عبد العزيز عن انقلاب 2005 وانقلاب 2008 تعزز ذلك ، فهو قال مرارا في بعض مؤتمراته الصحفية أنه نفذ انقلابه وبعض الجنرالات نائم ؛ وقال مرة إنه جمعهم في غرفة واحدة ؛ وكأنه أراد القول إنه هو وحده صاحب فكرة الانقلابات ؛ وأنه أرغمهم بصورة ما على تقبل انقلاباته.
وروايته للاحداث تعزز ما يصرح به بعضهم لخواص عن مقته لفكرة الانقلاب أصلا.
ويستطيع أي محاور لتلك الثلة من الجنرالات ملاحظة سعة وعيهم وتنوع ثقافتهم ؛ وشعورهم بثقل مسؤولية أمن بلدهم واستقراره.
شخصيا سألت بعضهم عن خلفية ما جرى عشية عودة الرئيس السابق من الخارج ؛ وما أعقب ذلك من أحداث متسارعة ورفضه حضور فعاليات عيد الاستقلال في اكجوجت ؛ واتضح لي عندها حجم الهزة التي سترسم لاحقا منحى الاحداث.
أحدهم قال لي بالحرف الواحد ؛ لقد رفع الرجل عنا كل حرج في التعامل معه.
لقد كنا ننظر إليه كقائد سابق لنا ورئيس سابق علينا أن نحسن التعامل معه مهما كان الوضع ؛ لكنه بسوء تصرفاته أسقط عنا كل حرج ؛ وسيواجه قوة القانون عند أي مخالفة يرتكبها.
أدركت حينها ماخلف ذلك ؛ وشعرت بأسف بالغ لما نحن بصدده من ملفات ساخنة ستخرج للعلن.
بعض العارفين بشخصية الرئيس السابق السيد محمد ولد عبد العزيز قال لي : المشكلة أن عزيز له فهمه الخاص للأمور ورؤيته الخاطئة التي لايقبل نقاشها مع أحد ؛ وسيواصل ارتكاب الأخطاء ضد رفاقه ليدفعهم إلى شطبه !
جنرال آخر مخضرم قال لي قبل ستة أشهر : أتمنى أن يكون الرئيس غزواني آخر رئيس موريتاني قادم من الجيش إلى القصر ؛ وأتمنى أن يتحول جيشنا إلى مهامه كجيش محترف يحمي سيادة البلاد ؛ ويحمي رئيسا مدنيا منتخبا دون دعم من أي جهة عسكرية لتأخذ موريتانيا طريقها الطبيعي وتتفرغ حكومتها للتنمية؛ إن السيد الرئيس محمد ولد الغزواني سيكون خاتمة مسك للرؤساء القادمين من الجيش ؛ والكلام للجنرال ؛ وأضاف لن نسمح للرئيس السابق ( بام الداغية) فهو حاول ( يداغينا) و سنكون له بالمرصاد ؛ فبرنامج غزواني برنامج وطني نظيف.
لتلك الأسباب لم أتفاجأ بتفاقم ” أزمة العشرية”.
وكلمة ( ام الداغية) بالحسانية معناها الخداع في اللعبة ؛ ورغم أن تفاصيل ( ام الداغية ) الرئيس السابق لم تكشف بعد إلا أنها شكلت منعطفا حادا في علاقة الرئيس السابق مع خلفه ومع أركان الدولة أكثر من قصة المرجعية الحزبية.
ويستطيع أي محلل معلومات سياسية تفكيك بداية المشهد ورسم نهايته ؛ فهناك قرار سياسي أولا بشطب الرئيس السابق من المشهد ؛ ومايجري هو إخراج سياسي وقانوني ناعم لتحقيق ذلك بطول نفس.
لكن الإشكالية لاتكمن في ذلك ؛ ففي كل دورة تفكك لتحالفات مركز النفوذ الأول بالبلد ( مركز نفوذ المؤسسة العسكرية ) تشهد بلادنا أحداثا تبدو قاسية ؛ لكنها نتيجة حتمية لتصادم المسارات المتعاكسة.
بيد أن للوضع الراهن بالداخل انعكاس خارجي مؤثر علينا احتسابه ؛ فالعالم ربما يكون قد سئم من نتائج الصراع على السلطة والنفوذ والثروة في موريتانيا ؛ وليس معقولا أن تظل النخب السياسية لسنوات تمجد نظامها ورأسه ثم تقول للعالم فجأة أنها اكتشفت عكس ما كانت تقول للعالم وللشعب الموريتاني !
صحيح أن الفساد الذي أصبح روح الحكومات الموريتانية المتعاقبة منذ عام 1978 شل نمو بلدنا ورمى بنا في آخر لوائح العالم ؛ وخلق ثغرات غائرة في سلمنا الاجتماعي ؛ لكن الخروج من دوامته يحتاج تخطيطا جيدا وشمولية في معالجته وتطويرا للقوانين ؛ وفرضا للشفافية المالية.
فحجم المال المنهوب والمبدد في مشاريع وهمية أو غير مطابقة للمواصفات منذ عام 1978 إلى اليوم يقدر ب 400 مليار دولار كانت كفيلة بتطوير بلدنا خلال 42 سنة الماضية .
فماذا بعد ؟
هل سيختفي الفساد إذا تمت مصادرة بعض الأملاك العقارية بالعاصمة والتي يقال أن مقربين من الرئيس السابق اشتروها بتوجيه منه وتمويل.
وهل سينتهي الفساد وملفاته بمصادرة مزرعة الرئيس السابق التي يقال أن خيرية سنيم مولت بعضا منها الخ
وهل سينتهي ملف الفساد بوضع اليد قضائيا على أرصدة الرئيس السابق وبعض الشخصيات حوله في الداخل والخارج ؟
هل يتصور الرأي العام أن ذلك يسير وقابل للتنفيذ بسرعة ؟
الرئيس غزواني أكد أنه لن يتدخل في سير القضاء ؛ وعملية التقاضي لن تكون سهلة ؛ فهناك ادعاء عام ودفاع سيكون شرسا وربما استقدم الطرف المدعى عليه فريقا دوليا من المحامين ؛ سيجدون امامهم قوانين محلية لم تحكم جيدا فيما يتعلق بالتسيير والإدارة وقانون محاربة الفساد الذي صدر 2016 وغير ذلك من الاحتمالات التي ستستغرق وقتا اطول ؛ ولو افترضنا أن الادعاء العام سيكسب القضية فإن دورات الاستئناف والطعون والدرجات العليا للتقاضي لها وقتها المديد.
وليس تنفيذ الأحكام إن صدرت بالسريع هو أيضا ؛ فعمليات استرداد أموال فساد من الخارج تحتاج هي الأخرى وقتا أطول وترتيبا قضائيا آخر.
ومن ذلك ندرك أن تلك الملفات ستفرض نفسها لسنوات على وضعنا المحلي المعقد الذي يحتاج صرف الاهتمام إليه أكثر من قصة الحرب على الفساد التي لن تحقق أهدافها المرجوة غير الشق السياسي المتعلق بشطب الرئيس السابق من المشهد السياسي ولو لسنوات.
ويبقى السؤال الاهم هو إلى اين تتجه موريتانيا ؟
لاشك أننا بلد يمتلك كل مقومات النهضة الاقتصادية ؛ ولاشك ان الرئيس غزواني يحمل هم تطوير بلده ودفع مؤشراته الإيجابية للارتفاع ؛ لكن اللعبة السياسية حول الرئيس غالبا ما تحد من فاعلية تركيزه على الهم الاقتصادي ؛ فالثارات السياسية بين نخب الوطن المالية والحزبية والجهوية والعرقية متاهة عويصة تفرض على الرئيس التحرك بحذر في حقل ألغام سياسي مبعثر في كل الاتجاهات.
الدولة العميقة موجودة بقوة في كل استحقاق رئاسي ومتواجدة في كل تفاصيل التجاذبات ؛ وعلى الرئيس غزواني وأركان الدولة حوله الانتباه جيدا لمئالات الأحداث .
موريتانيا بحاجة لخروج آمن من متاهة المغالبة السياسية السلبية ؛ التي تعرقل كل جهد ممكن لإطلاق مارد التنمية الموريتاني من عقاله.
ولاقيامة اقتصادية مع وجود فساد في التخطيط الاستراتيجي وفي التنفيذ والتسيير وفساد إداري متراكم ؛ وتضخم للميزانية الاستهلاكية الحكومية .
فهل ستصل موريتانيا مع الرئيس غزواني نهاية ولايته الرئاسية الأولى وهي في حيص بيص ؛ وهل سينجح في الفوز بولاية ثانية ؟
وماذا بعد ولايته الثانية ؟
هل سنشهد انتخاب رئيس مدني مناسب كما يتمنى بعض الجنرالات ؛ أم أن جنرالا آخر سيخلع زيه العسكري ليكون الرئيس القادم مابعد غزواني
أم أن للقدر كتابة أخرى للأحداث .
حفظ الله بلادنا من كل سوء .
* بقلم: عبد الله ولدبونا