ثورة مصر .. و سقوط آخر الفراعنة
صباح الخير يا مصر.. صباح الخير يا أم الدنيا.. و يا أم الثورات..
“شبيك لبيك.. الثورة بتسلم عليك” .. صباح الخير .. و الفل .. و الزنبق.. يا مصر أحمد عرابي.. و عمر مكرم.. ومحمد كريم.. والسيد المحروقى.. وجرجس الجوهرى.. والحاج مصطفى البشتيلى.. و سليمان الحلبى..
صباح الخير يا مصر.. سعد زغلول.. و عبد الناصر.. و حسين الشافعي.. و صلاح سالم.. و زكريا محيي الدين.. و سعد الدين الشاذلي.. و فؤاد عزيز غالي.. و عبد الغني الجمصي.. و نصري جرجس..
صباح الخير يا مصر الفتح.. و العز.. و المجد.. صباح الخير يا مصر الكنانة.. وهبة النيل.. صباح الخير يا مصر النور و العلم و الفكر.. صباح الخير يا مصر الثقافة.. و الأدب.. والتأليف.. صباح الخير يا مصر الأزهر.. و الحسين.. و كنيسة السيدة العذراء مريم ..و كنيسة الملاك ميخائيل و القديس الانبا شنودة.. صباح الخير يا مصر الذوق الرفيع.. و الفن الأصيل .. و الإبداع المدهش.. صباح الخير يا مصر “الست” أم كلثوم.. و العندليب الأسمر.. والسنباطي.. و سيد درويش.. و سيد مكاوي.. و كارم محمود.. صباح الخير يا مصر قلعة محمد علي.. و سوق الكتب في سور الأزبكية…. صباح الخير يا مصر مسرح الريحاني.. و مكتبة الإسكندرية.. صباح الخير يا مصر مطابع بولاق.. و مكتبة سيد مدبولي.. صباح الخير يا مصر خان خليلي و الغورية.. صباح الخير يا مصر الأريحية.. و روح الدعابة .. و النكتة .. و “الهزار”.. صباح الخير يا مصر.. الفول المدمس.. و الملوخية.. و الكباب .. والكفتة.. والحمام المحشي..
“شبيك لبيك.. الثورة بتسلم عليك” .. قالها المصريون أخيرا.. فعلها المصريون أخيرا..
أخيرا.. ثارت مصر.. كما ثارت منذ قديم الزمان.. هكذا كانت مصر دائما.. و ستبقى كذلك أبدا.. ثارت مصر سنة 1580 قبل الميلاد ضد الهكسوس.. لتحصل لأول مرة على استقلالها.. ثم ثارت مصر مع أحمد عرابي و الجيش سنة 1881 – 1882 ضد الظلم و القهر.. كما ثارت مصر مع سعد زغلول سنة 1919.. ضد الاستعمار و الاستعباد.. و ثارت مصر في 23 يوليو 1952 مع عبد الناصر.. و نجيب.. و عامر.. و خالد محيي الدين.. ضد الاستعمار.. و التبعية.. و النهب.. والظلم.. و التخلف..
أخيرا.. ثارت مصر.. هذه المرة .. ثارت مصر مع فتيان و فتيات حركة شباب 6 أبريل في حركة المقاومة المصرية .. إنهم حقا فتية آمنوا بربهم.. و بالشعب.. إنهم آلاف مؤلفة من المدونين.. و شباب الفيسبوك.. و التويتر.. و اليوتوب.. تعالوا بهممهم على تناقضات السياسيين .. و سخافاتهم.. و حزازاتهم التاريخية.. كفروا بتصنيفات اليمين و اليسار و الوسط.. و تنادوا لتقديم أفكارهم و صدورهم قرابين للشعب و للأمة.. فثارت مصر أخيرا.. ضد الاستبداد.. و هدر الكرامة.. و الظلم .. و القهر.. و التزوير ..و التدليس.. ثارت مصر ضد الفقر.. و الجوع.. البطالة..و التهميش..
أخيرا .. خرجت ثورة مصر.. من رحم المعاناة و الغضب .. و اليأس.. خرجت ثورة مصر من عباءة الثورة التونسية.. و قد تعمدت بدماء البوعزيزي.. و تقاسم أهالي السويس مع أهالي سيدي بوزيد طبق الفول المدمس و الخبز و الزيت.. و استلموا منهم شعلة الثورة.. عصر الجماهير الرقمية قد بدأ فعلا.. و طوفان الثورات قادم لا محالة.. ثورات بالجملة.. و بالمفرق.. في موسم التخفيضات و “التنزيلات” الشعبية.. خذ لك الآن ثورتين على النت.. بسعر ثورة واحدة.. و اربح مليون ثائر مع البوعزيزي..
اغتسل المصريون ..صلوا جمعتهم.. و استأنفوا ثورتهم.. عمت الثورة المدائن و الأمصار.. و انتقلت جذوتها المتوقدة من بلدة إلى بلدة .. و من كفر إلى كفر.. من عزبة إلى عزبة.. أيام الغضب في مصر أربعة.. و معهم خامسهم.. و قيل خمسة.. و معهم سادسهم.. ثورة مصر.. “ست أصيلة و بنت ناس كمان” تصلي كل يوم في “السيدة زينب”.. و تبتهل في كنيسة القديسين بالإسكندرية.. ثورة مصر تأكل الطعام .. و تمشي في الأسواق.. و تمسح الحزن عن ميدان التحرير.. و كوبري 6 أكتوبر..
في القاهرة.. أوصلت ثورة مصر رسالة الجمعة الهادرة إلى الطاغية في برجه العاجي.. رغم أنه قطع كل وسائط الاتصال بين مصر و العالم الخارجي.. و كذلك كان الأمر.. في الإسكندرية و السويس.. اختمرت الثورة على نار هادئة.. و سيطرت على النفوس.. و القلوب.. و الأفكار… و هي الآن.. تخيط ثوب عرسها الأبيض.. للاحتفال مع بقية العرائس.. في الإسماعيلية.. و المنصورة .. و دمياط.. و سيناء..و الدقهلية.. و غيرها..
فلول النظام.. و أذياله المنهارة.. قد فروا و اختبئوا كالجرذان الخائفة.. انتهت قصة التوريث.. و انتهت قصة التقديس.. و لو أن الكابوس لم ينته بعد.. أما آخر الفراعنة .. فهو لم يفهم ببساطة حقيقة ما يجري… غاب أمس طويلا عن المشهد .. حتى ظن الناس أنه التحق بزميله الهارب بن علي.. في مخبئه في جدة..
أخيرا.. طلع الفرعون في منتصف الليل.. بخيلائه و طاؤوسيته المعهودة.. ليحكي للمصريين “حدوتة”.. طمع أن ينام عليها المرابطون في الشارع الهائج.. لكن النكتة كانت “بايخة”.. و الفرعون كان شاحبا.. و غائبا.. و حائرا…. و كان صوته معدنيا.. .. و باردا.. مثل أصوات “السرفير” المستخدم في الهواتف و الموزعات الصوتية.. ظن الناس بأن الريس قد “فهم” ما لم يفهمه سلفه بن علي.. لكنه لم يفهم شيئا.. بل و لن يفهم أي شيء.. إلى آخر المطاف.. مرة أخرى.. يتضح بأن سيكولوجية النظام العربي الرسمي تتشابه بل و تتطابق.. مع اختلاف الزمان و المكان.. و أن منظومة الخلايا الجذعية للدكتاتورية العربية العتيدة.. متصلة فيما بينها بحبل سري.. لا ينفصم.. إلى أن يزول صاحبه.. أو يزال.. بقوة الثورة و شرعيتها..
انتهى النظام المصري.. غير مأسوف عليه.. بعد حكم تسلطي دام ثلاثين سنة..و انتهى مبارك و تجاوزته الأحداث.. فقد آخر الفراعنة كل شيء دون أن ينتبه لذلك.. حتى القدرة على القمع.. التي لم يكن يحسن سواها.. و رغم ذلك.. ما يزال آخر الفراعنة يناور.. و يماطل.. و ينظر إلى نفسه ككائن خرافي ..بنصف إله و نصف “السفينكس”.. يرتدي بذلة سوداء و ربطة عنق من محلات “هوغو بوس”.. و يطلق وعوده العرقوبية على الأثير.. كما كان يفعل منذ ثلاثين سنة.. لكن هذه المرة.. بدا آخر الفراعنة قاتما.. و هائما.. و مرعوبا.. غير أنه تماسك.. للحظات فقط أمام الكاميرا.. و تظاهر .. بأنه ما يزال الآمر الناهي.. يعطي.. و يمنح.. يوزع.. و يتكرم.. و يهدد و يتوعد.. يقرر.. و يدبر.. يحكم.. و ينفذ ..
كان آخر الفراعنة في الحقيقة.. أشبه بمومياء محنطة..تخرج من قمقمها وسط ركام متحف منهوب.. لكنه ما زال يتشبث بآخر رمق له في الحياة.. سيناريو مسلسل رديء.. تعيينات في الوقت بدل الضائع.. و مماطلات.. و بلطجية .. تماما على طريقة الهارب بن علي..
انهار النظام تحت أقدام ثورة مصر.. و بقي رأسه يعاند.. و يكابر.. و يطمع أن ينجو ببدنه.. تماما كما حدث قديما لفرعون مع نبي الله موسى.. مع فارق جوهري بين الفرعونين.. أما الأول.. فقد تدارك الموقف و هو يغرق.. فآمن بينما كان وسط أمواج اليم المتلاطم.. و كتبت له النجاة.. ليكون آية للعالمين.. و أما آخر الفراعنة .. فقد اختار أن ينتحر وسط أمواج الجماهير الثائرة..
محمد السالك ولد إبراهيم
medsaleck@gmail.com