عد ساعتين ومن أول لقاء لي معه اكتشفت أنه صديق عتيق، جرب الحب مثلي وامتلأت رأسه بالأحلام والشيب وفاض كأسه الذي ظل مترعاً …
هكذا تخطت علاقتنا بسرعة فائقة الشكليات والبعد الجغرافي والسنون ، فوجدنا أنفسنا دفعةً واحدة بجذور متشابكة وممتدة عميقاً مثل “الشجرة الهلامية” التي أطلق عبد السلام بو طيب إسمها على روايته الأولى ، المدهشة والمثيرة ، وإلى جوار هذا الإختيار كان يغنجها ويدلعها فيسميها بـ “دولوريس” أو “لابوسيوناريا” مرادفاً للإسم الأول .
إقرأ أيضاً: عبد الحسين شعبان يكتب لـ«جنوبية»: الأخوة الإنسانية تتحدى الجائحة! في حجره الباريسي الإجباري تزاحمت عليه الأيام والليالي، بل والسويعات، فلجأ إلى القص عبر حوار مع شجرته الأثيرة التي كانت منتصبة مقابل شباك شقته التي إكتراها، وأمام غرفة الإستقبال بالذات ، فبعد بضعة أيام ثقيلة أصبح صوته واهناً وعيناه حزينتين وحركته صعبة ، لكنه لم ييأس أو يستسلم وهو المرفوق بالأمل ، فاستفز ذاكرته بالحوار، حتى كشف عن بعض مكنوناتها ، وبالطبع حاضرها، وهي مستودعٌ للكثير من الحكايات والأسرار والمعلومات ، وحاول أن يقدمها بحبكة درامية لتجارب مريرة في غالبيتها، تعكس ثقافته الصافية والأنيقة. الذاكرة تمطر وحشة وغموضاً وعطراً لم يدع عبد السلام بو طيب لحظة تهرب من بين أصابعه أو اعتبار ما حصل امراً محبطاً ومؤثراً على معنوياته بحيث يعطل طاقته الإيجابية التي يُعرف بها، فاستدرج نفسه، مثلما استدرجته الذاكرة إلى التدوين والكتابة لرؤية تمطر وحشة وغموضاً وعطراً، رواية تشبه أعماق النفس البشرية، وأستطيع أن أقول تشبه عبد السلام بو طيّب كما عرفته.
لقد ابتدع أو عاش أو تخيّل أو استحضر حواراً مع دولوريس كجزء من منولوج داخلي، يسمع من خلاله صوتها الذي لا يسمع أحداً سواه، وهكذا مضت الأيام الـ 100 بقدر ما هي ثقيلة فقد كانت مسرعة أيضاً وظل متعلقاً فيها بحواره السرّي مع الشجرة، تلك التي أستطع التعبير عنها بالحكمة الخفيّة، التي هي أقرب إلى مناجاة الروح، كأن يفتش فيها عن هويّته الأمازيغية ويتحدث عن الأمازيغيين ، خارج دائرة الشرنقة العنصرية المقيتة، ولكن ضمن إطار الخصوصية والهويّة الفرعية الواجبة الإحترام ، وقد وضع هدف الأمل كهدف سام ليسعى إليه دون تردد أو إكتراث للمعوقات والمنغصّات.
لم يخفي منولوجه الداخلي حزنه المعتّق على الرغم من ابتسامته التي لا تفارق محيّاه، لكن هذا الحزن صار مضاعفاً خلال فترة حصاره الباريسي، بسبب اجتياح العالم “فايروس كورونا” كوفيد 19 ، وبدلاً من الإحتفال مع ابنته الكبرى يسرا لتخرّجها من إحدى مدارس الهندسة، تمّ حجره ، وخصوصاً حين تم تعطيل الطيران إلى بلده وبقية أقطار العالم. أمازيغية واعتزاز لا يتردد الراوي في التعبير عن أمازيغيته بكل اعتزاز في جواب على سؤال دولوريس عن الأمازيغية، فيقول : أهل بلدتي في “الريف” حينما يشكّون بأحد يتظاهر بالدهشة، تكون إجابتهم حينئذٍ مليئة، ويتوقفون عند كل حكمة وهم يتابعون عيون المندهش، نعم ، هي أصلٌ … وفصلٌ … وجنسٌ…وعرق… ولغة…وثقافة…وتقاليد… وعادات لأبناء شمال أفريقيا الأصليين، وهي منطقة تمتد غرباً من جزر تاكتريت المعروفة اليوم بجزر الكناري أو الجزر الخالدات أو جزائر السعادة وهي لاس بالماس وتزييف وكراند كناري ( كناري الكبرى) وفوير تيفينثورا ولانزورتي وجزر أخرى كلّها تابعة لإسبانيا حالياً، إلى سيوه بمصر شرقاً وإلى تخوم النيجر جنوباً .
ورغم إنه لا يريد تقليب المواجع كما يقول، إلاّ أن ألمها يطفح حين يستعرض التاريخ أو يدع الشجرة تستعرضه بدلاً عنه في لعبة ذكية بتبادل المواقع، لكن التاريخ لا يمكن استعادته ولا بدّ للإستفادة من دروسه وعبره للحاضر والمستقبل. الهوية وتداعياتها لكن عبد السلام الذي يبدي حساسية عالية إزاء الغزوات التي تعرضت لها المنطقة، سرعان ما ينتبه وكأنه في غفلة عن المتاجرين بالهوية، فيقول: إن مأساة اللغة الأمازيغية يا صديقتي دولوريس تكمن في أنها ذهبت ضحية بعض المدافعين عنها، وهو يقصد المتطرفين فيها ضد الآخر، سواء كانوا بحسن نيّة أو بغيرها مثلما ذهبت ضحية بعض المتعصبين للغة العربية من القوميين (بمعنى التسيّد) وهؤلاء وأولئك لا تهمهم اللغة العربية أو اللغة الأمازيغية وإنما همهم الأول هو التجارة الرابحة، وبمعنى أكثر من ذلك يقول فقد استعملت اللغة الأمازيغية كحطب ” نبيل” في حرب إيديولوجية، وإن إستشكلت عليه اعتبار اللغة العربية لغة غزاة كما أسمتها دولوريس ولعلّ وقفة مثل هذه تحتاج إلى حوار جاد ومعرفي برأس بارد وقلب حار. عالم مليئ بالأسرار عالم عبد السلام بو طيب لا ينفتح بسهولة على الرغم من بساطته، ولكنه يبقى غامضاً ومبهماً وهو بحاجة إلى جهود استثنائية وإلى محفزّات، فأقفاله مصنوعة بدقة لأن خزانته تحتوي على أسرار وخفايا وخبايا ومشاريع وتكوينات بصرية وسمعية وطموحات سياسية ومساومات وتحالفات مختلفة، وقد تبدو متناقضة، فهذا هو عبد السلام وعلينا أن نأخذه كما هو بتناقضاته وتضاداته واجتهاداته.
وكما يقول الجواهري شاعر العرب الأكبر: ولم أر في الضدائد من نقيضٍ إلى ضدٍ نقيضٍ من ضريبِ حاول عبد السلام أن ينظر إلى دولوريس وكأنها تعتمر قبعة كبيرة هي أشبه بمظلّة وأخذ يتفيأ تحت ضلالها، ناظراً إلى مفاتن الجمال التي يترصع بها صدرها، مثل أضواء ملوّنة، وأخذ يبوح لها ما لم يستطع أن يبوح لغيرها، حتى لحبيبته وزوجته، ومثل هذا البوح المكبوت لسنوات طويلة كا ن تعبيراً عن أصوات عاشت بداخله، وهي أصوات غير متجانسة أحياناً، لكنها تشكّل هارموني شخصية عبد السلام التي تكوّنت عبر التراكم والتداخل والتفاعل والتراكب ما بين المرحلة الإيمانية التبشيرية ووصولاً إلى المرحلة التساؤلية العقلانية النقدية كل ذلك في فضاء الرؤية بزوايا المختلفة والحادة أحياناً. وهكذا كانت سرّديته مفعمة بالأسماء والشخصيات والشعراء والفنانين والبيوت والوجوه والأزمان والمراجعات والنقد، قدّمه على نحو ممتع وشائق، مصحوباً بثقافة عالية وذائقة رائعة وأبعاد جمالية زاهرة. ثلاث أشجار حين قرأت روايته “الشجرة الهلامية” إستحضرت ثلاث أشجار كانت حاضرة في ذهني، إثنتان منها في طفولتي وفتوتي الأولى، والثالثة قبل عقد ونيّف من الزمان، ولعل حبر عبد السلام الحقوقي كان له لون أدبي شفيف آمتزج بوجدانية عالية وصورٍ مبهرةٍ وخلاصات حياتية عميقة، وإن كنت لا أتفق مع بعضها، لكنني لا أستطيع إلاّ أن آخذها كجزء من قناعاته التي أحترمها.
أولى الأشجار التي تركت في ذاكرتي شيئاً أثيراً لا يمحى، هو شجرة السدر التي كانت تتوسّط فناء (حوش) بيت جدّي الكبير، وكنّا نهزّها في فترة الظهيرة حين كان الجميع يغطون في قيلولة، ليتساقط “النبق” اللذيذ وهو من الثمار النادرة، وكأنه أقمار ملونة، وكانت الشجرة تزهو به وتحمله كدرر على صدرها. كان يستفز النسوة الكبيرات حين يسمعن تساقط النبق بالطريقة التي نقوم بها، أي باستخدام عصا طويلة نخبؤها في سطح المنزل، محاولين استنزال النبق بواسطتها بضرب الأغصان الكبيرة.
كانت غزوة “أم معين” زوجة الحاج عبد وهي شديدة الصرامة تعتبر شجرة السدر مقدّسة وهي “علوية” أي أن نسبها يعود إلى الرسول محمد ، في حين أن اسمها العلمي يُعرف بأنها شجرة المسيح في اعتقاد دارج بين بعض المسيحيين بأن الإكليل الذي توج به السيد المسيح قبل أن يُصلب، وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم باعتبارها “من الأشجار الموجودة في الجنّة” ويستخدم ثمارها “النبق” ولحاؤها وأوراقها وجذورها في الكثير من العلاجات، ويعتبر عسلها المنتج من أغلى أنواع العسل ثمناً، وهو موجود في اليمن ويسمى “عسل السدر الدوعني” أما الحاجة زهرة “أم ناصر” وهي زوجة الحاج حمّود شعبان شقيق الحاج عبد الأكبر ووالدتها تاضي التي فقدت بصرها ومن ثم فقدت قدرتها على التنقل وأصبحت مقعدة، فكانتا دائماً ما تحذّران من استخدام تلك الطريقة في جني ثمار شجرة السدر، وغالباً ما كان الكلام موجهاً لي باعتباري المحرّك لتلك “العملية” وينصحن بانتظار أن يسقط “النبق” الناضج لنجمعه ونغسله ونأكله بدلاً من إسقاطه بواسطة العصا الطويلة، التي يتم اكتشافها بين فترة وأخرى فيتم إخفاءها . وثانيها – شجرة التوت في الكوفة قرب قصر الملك، وبالمناسبة كانت شجرتان، واحدة للتوت الأبيض وأخرى للتوت الأسود أو الأحمر المائل إلى اللون البنفسجي ولا أتذكر إنني أكلت توتاً في حياتي أطيب من توت تلك الشجرة الفضيّة والأخرى البنفسجية، وفي كل مرّة وفي الفصل الخاص كنّا نذهب إلى الكوفة لنجلس تحت الشجرتين، نجدهما مزدانين بالثمر، بل وإنهما مضاءتان بزهو وكأنهما ينتظراننا.
ذهبت في المرّة الأولى ولعدة مرّات مع العم شوقي ، وكنا نأكل ما لذّ وطاب، وقد ذهبت فيما بعد مع بعض الأصدقاء ومنهام علي الخرسان وسهام ماضي وعبد الأمير السبتي ومحمد الكويتي وجواد نقش ومرة واحدة مع عبد الأمير الغرّاوي وعلي الخرسان وآخرين لا أتذكّرهم. وثالثها- شاهدتها وصوّرت بجانبها كانت في ساوباولو (البرازيل) حيث شيّد تحت أغصانها المرفوعة بسقف شفاف مطعماً راقياً إسمه Figuerie Rubaiyat ، وفي هذا المطعم وعشية عيد رأس السنة الميلادية 2008-2009 عرفت بالعدوان الإسرائيلي على غزة والمعروف بعملية “الرصاص المصبوب” وأطلقت عليها المقاومة الفلسطينية “معركة الفرقان” واستمرت 23 يوماً.
لا أعرف كم حجم الشجرة أو طولها، لكنها بصورة تقريبية، وحسب النظر، فإنها تمتد يميناً بنحو 15- 20 متراً ويساراً بنفس القدر حيث تخرج بعض أغصانها إلى الشارع العام من تحت السقف الشفاف.
وكنت قد جئت على ذكرها أمام الصحافي الكبير جهاد الخازن فقال لي أنه كتب عنها وعن المطعم المذكور خلال حضوره أحد المؤتمرات في ساوباولو. لعل شجرة بو طيب الباريسية أو “الهلامية” ستكون الشجرة الرابعة التي لا بدّ أن أضمّها إلى الأشجار المميزة التي أحبّها وسأذهب لأقتفي أثره، فعسى أن تنفتح قريحتي ويتحرك قلمي كما انفتحت قريحته وكما داعب قلمه الأنيق الوريقات البيضاء، وكل شيئ يتعلق بالبقاء على قيد الحياة، وهنا لا أريد أن أتحدث عن أشجار النخيل التي كانت تزدان بها حدائق بيوتنا وبساتيننا في الكوفة ، بل غابات النخيل والأصح بحار النخيل العراقية التي دمرّت الحرب العراقية – الإيرانية تلك الثروة، لا سيّما حين تم قطع رؤوس نحو 6 ملايين نخلة وتلويث البيئة والعبث بالطبيعة بتلك الطريقة اللاّإنسانية في حرب لا معنى لها . ا
لنخلة عمتنا فهذه “عمتنا النخلة” التي وردت في أحاديث الرسول محمد وجاء ذكرها في العديد من الآيات القرآنية، تعود أصولها إلى العهد السومري والبابلي والآشوري وقد قننت في شريعة حمورابي (المادة 59) ونصت على تحريم من يقطع نخلة واحدة.
وكما يقول أبو العلاء المعري: وردنا ماء دجلة خير ماء وزرنا أشرف الشجر النخيلا المنولوج الداخلي يقول المنولوج الداخلي في حوار مع الشجرة الباريسية: بعد حين جاءني صوتها خفيفاً متموّجاً يشبه الأثير، فخاطبتهُ: صباح الخير سيدي، طاب نهارك، يسعدني أن أرحب بك في مدينة الجن والملائكة “باريس” وحين يكون السؤال بأي لغة كان الحديث مع الشجرة يستنفر صاحب الذاكرة لأن الأمر حسب وجهة نظره يتعلق بالأمازيغية ، فيحتج ليقول وحتى دون إشارة إلى ذلك ” إنها ليست لغة ميتة … إنها أم لغات المنطقة “مدفوعاً بالشعور بالفداحة والإستلاب والتهميش. في اليوم التاسع والثلاثين تبدأ لواعجه تتداعى فتسأله الشجرة لماذا أنت حزين؟ وكان جوابه طريفاً ومعبراً في آن: أنا مشتاق لوسادتي ، وهنا تذكرت سعدي يوسف حين يعبر عن غربته بقوله في ديوانه الأخضر بن يوسف ومشاغله: يبلل ماؤه طعم الوسادة في ليالي النوء والحسرة ويأتي مثل رائحة الطحالب أخضر الخطوات يمسح كفّي اليمنى بغصن الرازقي أفق أنا النهر ألست تحبني أولمْ ترد أن تبلغ البصرة بأجنحة الوسادة؟ أيها النهر أفقت…أفقت فوق وسادتي قطرة لها طعم الطحالب إنها البصرة غادر السجن ولم يغادره السجن تكتظ الرواية بحوارات حول اهتمامات كاتبها بالشيوعية وخيباتها “والإسلاميين” وتطرفهم “والقوميين” وتعصبهم، ويندرج فيها العرب والأمازيغين والترك والفرس والكرد والمسيحيين والبوذيين، وتستيقظ الذاكرة السجينة بعد 37 عاماً أي منذ أن أطلق سراحه في 5 شباط (فبراير) 1987، وإذا كان هذا تاريخ مغادرته السجن فإن السجن لم يغادره قط حتى أنه لحظة إطلاق سراحه فكرّ في عدم مغادرته، صحيح أن كل شيئ مضى، لكنه في الوقت نفسه لم يمضي، وقد ظلّ هو يسترجع ويستعيد التفاصيل لمناسبة أو دون مناسبة، لقد شعر أنه مثل الحطب “النبيل” الذي يحترق من أجل أن يدفئ الآخرين أو ينير الطريق لهم أو يهيئ مستلزمات الحياة كما يتصوّر.
في نوع من الهارموني أصبح طرفا الحوار يتبادلان المواقع: هو والشجرة ويتقاسمان الأصوات، لدرجة أنك لا تفرق بينه وبينها أحياناً وتختلط الصور والأصوات والآراء مع الشخص الثالث فيبدو كل شيئ متناغماَ في السؤال، وأول الفلسفة سؤال كما يُقال. في السجن الذي يسكنه ، كل شيئ يتغيّر بما فيه النظرة إلى الزمن والعادات والأشياء، وهذا ما عاناه حتى حين صار طليقاً أيام الحجر المفروض التي استمرت 100 يوماً ، المهم أن تتآلف مع البيئة، فقد كان نيلسون مانديلا طيلة أيام سجنه التي استمرت 27 عاماً يزرع أشجاراً في قنينات الزيت الفارغة من سعة 5 ليترات، ويعتبرها هي الوحيدة الحرّة في ذلك السجن، أي من صديقاته وأصدقائه الأحرار. الوسادة ثم الوسادة لقد غير صاحبنا 4 شقق باريسية إكتراها انتظاراً لترحيله ليلتقي بوسادته الحبيبة، ولعلّها هي التعبير المكثف عن وطنه وحسب محمود درويش “الوطن هو هذا الإغتراب الذي يفترسك”، وهكذا قدّم عبد السلام بو طيب سرديته في الزمان من خلال وسادته التي ظل يفتقدها طيلة أيام حجره، وربما الوسادة التي ظلّت خالية ووحيدة، و “الوسادة الخالية” هي رواية كتبها إحسان عبد القدوس وقدمها المخرج صلاح أبو سيف في العام 1957 في فيلم من بطولة عبد الحليم حافظ ولبنى عبد العزيز . يستعيد علاقة اليهودية أنا فرانكا وشجرتها “الكستناء” وقد زار المتحف الخاص بها في أمستردام وهو المكان الذي اختبأت فيه ويرفض مسألة خرافة الهولوكوست التي يشكك فيها البعض، وكنت آمل في هذا المقطع أن يأتي على ذكر أشجار الزيتون الفلسطينية التي يقتطعها الإحتلال الإسرائيلي يومياً ويقوم بتجريف الأراضي ومصادراتها في عمليات استيطان خلافاً للقانون الدولي والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نظرة حقوقية متوازنة.
الهواجس ولكن ما هي الشجرة الهلامية : يقول هناك عبرة لها من بلاد الريف والمقصود ليس الجيلاتين، بل المادة الإيونية نسبة إلى اللغة اليونانية ، أي المادة غير قابلة للفناء ، وهي لا شكل ولا لون لها وممتدة لا مكانياً ولا زمانياً، وتتلامع في ذاكرته سجن الماضي ورحابة الحاضر، فيقول يمكن للذاكرة أن تحوّل الإنسان إلى رهينة لها أو حتى ضحية، في حين أن الصفح و الغفران والمقصود التسامح يحوّلها إلى شيئ إيجابي دون أن يعني ذلك النسيان لما حدث. ولقد ظل عبد السلام بو طيب مهجوساً به وهو هاجس له بُعد حقوقي وإنساني، ليس كضحية فحسب، بل قد يكون تجاوز ذلك، محاولاً توظيف ثوريته القديمة باتجاه آخر، أو ربما أكثر دقّة تحويل مجراها، إلى اتجاه آخر على الرغم من التجربة الماضية المريرة، فالنظرة العقلانية للتطور تجعله يقف متسائلاً وحائراً أمام ” الربيع العربي” مشدّدا على أهمية التعليم والتربية، فالمدرسة والمناهج التربوية مع الإصلاحات الإجتماعية يمكن أن تنجز التغيير المنشود، وربّما في العقل الباطن يستعيد ما قاله لينين للشبيبة بُعيد الثورة : تعلّموا… تعلّموا … تعلّموا وتلك وصية عامة لكل شعب يريد أن يتقدم ولكل مجموعة سياسية تريد أن ترتقي سدة الحكم.
وجهان من مشكلات الشجرة الهلامية، أولهما – جنوباً ويقصد مشكلة الصحراء الغربية المعروفة بإسم البوليساريو التي ظلّت محط تجاذب إقليمي ودولي حتى اتخذت وجهة أخرى مؤخراً بانحياز دولي ، وثانيهما – شمالاً ويقصد مشكلة منطقة الريف ومسألة التنمية ، ولا يقصر في انتقاد “قبيلة الحقوقيين” كما يسميها لعدم حسن التدبير بإخضاعها للسياسة مثلما لم تتفهم الدولة هذا المشكل الحقوقي في تعاملها، ويحيل المسألة إلى أهل العلم والإختصاص ، وكأنه يريد القول “أهل الحل والعقد” عليهم تحمّل مسؤولياتهم أو أن على أهل السياسة إيكال المسألة إليهم، وهو رأي دعا إليه أفلاطون الذي أسس جمهوريته على المعرفة والعلم والعقل والفلسفة ” ملك فيلسوف” أو “فيلسوف ملك”. وبقدر ما تكون الأيديولوجيا وهماً تأتي على الأخضر واليابس ، فإن استعادة الجزء النشط من الذاكرة يساعد على استمرارية الحياة في حين أن الذاكرة الجامدة مثل الصخر الجلمود والأسود ، وإن لم يتحكم الإنسان فيها فإنها ستشل قدراته وتجرّه إلى القاع. الجائحة والبداهة لا تتركه الجائحة لحظة ، وهي التي أعادت البديهي عند البشر وحولتهم أكثر مساواة أمام الإصابة والموت، وهكذا انطبق هذا القانون الطبيعي أكثر مما قاله مونتسيكو صاحب كتاب روح القوانين من أن “القانون مثل الموت لا يستثني أحداً” وهكذا فالجائحة لا تستثني الغني والرئيس والمسؤول ورجل الدين مثلما تشمل الفقير والعامل والموظف البسيط والطبيب المعالج، لكنه يعود للدلالة من التعاطي مع من يكتشف الدواء، فلا يهم إنْ كان اسرائيلياً أو سعودياً أو كوبياً أو موريتانياً، حسبما يقول، وكان الاجدر أن يقول سواء كان صينياً أم أمريكياً أم فرنسياً أم بريطانياً أم روسياً وهو أمر أقرب إلىٰ الواقع .
هدم السجن: ماذا يعني؟ لا تبتعد عنه الذاكرة جدا حين أريد هدم السجن الذي قضى سنوات من زهرة شبابه فيه، فتبدأ الذاكرة المعترضة ؛ لايحق لهم هدمه لأنه جزء من ذاكرتنا .. لايحق لهم وحدهم هدمه، لأن الغرض هو طمس الجرائم ومحو الآثار . كان ينبغي تعليق لوحة بأسماء الضحايا يكتبون عليها هؤلاء إختلسنا منهم شبابهم ومرّغنا كراماتهم بالتراب ومع ذلك غفروا لنا كما يقول باستحقاق وجدارة . والجملة الأخيرة علىٰ لباقٰتها فانها تعني الكثير لأنها تندرج في صلب برنامج العدالة الانتقالية، الذي شهده المغرب في نهاية التسعينات من القرن الماضي، ذلك كي لا يبقىٰ هذا النفق الطويل و المظلم مستمراً ، ليس بالنسيان بالطبع ، فالزمن مهما طال لايمكن معالجة الجراح التي يتركها في النفوس ، ولا بد من الإعتراف بما حصل ولماذا حصل وكيف حصل ؟
وبالمساءلة وجبرالضرر وتعويض الضحايا أو أسرهم وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية واللوائح السجنية وصولاً إلىٰ المصالحة الوطنية وتحقيق التحول الديموقراطي ولمنع تكرار ما حدث . استنطاق الحجر و البشر لم يتردد صاحبي من إدانة أنانية البشر التي ستنطق الحجر و الشجر ، سواء أجاء ذلك الكلام علىٰ لسانه أو لسان صديقته دولاريس أوهي ما توحي له ، ولذلك يبدو شديد الإدانة للعنصرية بجميع أشكالها ، ضد السود وضد التمييز العنصري وضد مواقف اليهود الأرذوكس، المتشدّدين وهؤلاء كما يقول عنهم أكثر تطرفاً من الإسلاميين الآرذوكس، مثلما هو ضد الذين يتدشدّقون بالشعارات من المتعصبين باسم الدين أو القومية، ويتساءل إن هؤلاء اليوم يريدون اكتشاف الدواء بأي ثمن ، ولاشك إن الكفار هم من سيكتشفه ، حيث سيسارع هؤلاء إلىٰ اقتنائه في ازدواجية نموذجية ، لأنهم يذمّون الكفار بالشفة العليا من لسانهم ويمتدحونهم بالشفة السفلى.
لقد فتح عبٰد السلام بوطيب صندوقه المخبأ مثلما فتح الطاهر بن جلّون صندوقه بعد مرور 5 عقود من الزمان ( نصف قرن بالكمال والتمام) و نفث من خلال سردياته حزنه و ألمه النفسي وكان قد عبّر عنه في روايته “تلك العتمة الباهرة” التي جاء بها علىٰ سجن تازمامارت والتي تتكامل مع رواية “العقاب” وهي احدىٰ روايات روائع السجون التي يتناول فيها واقع الذاكرة وخيالاتها بسردية جميلة وآسرة لا تسعٰى لما حصل في الواقع . ومثله حاول عبدالسلام أن يؤرخ لمراحل حياته باللحظة حسب البيركامو أي خلال عزلته المجيدة في محجره الباريسي فيقول : المرحلة الأولى هي القُبلة الاولىٰ و المرحلة الثانية هي –الخروج من السجن ، و المرحلة الثالثة هي ولادة ابنته البكر يسرا ، و المرحلة الرابعة هي انخراطه في مسلسل العدالة والانصاف لمداواه جراحه ، والمرحلة الخامسة محاولته كتابة شذرات من تجربته المريرة في جريدة أنوال والمرحلة الخامسة هي الحجرالباريسي، وهومعلّق بين الحياة والموت، لكنه يدوّن تفاصيل معاناته اليومية، بل ساعة بساعة أحياناً ، لأنه ظل محكوماً بالأمل على حد تعبير المسرحي السوري سعد الله ونوّس، وهكذا ظلّ ينافح ويكافح لإستعادة وسادته بأي ثمن وكأنه يردّد ما قاله فيكتورهيجو مخاطباً شجرته الهلامية أو الباريسية فلا فرق في ذلك . ياشجرة الغابة أنت أدرى بروحي وحيداً في أعماقك أشاهد وأحلم وكنت قد تذكرت حكاية أبوكاطع؟ (شمران الياسري؟) ياشجرة التفاح البيضاء! وحسب محمود درويش: الشجرة أخت الشجرة أوجارتها الطيبة الكبيرة تحنوعلى الصغيرة وتمدّها بما ينقصها من ظل والطويلة تحنو على القصيرة وترسل إليها طائراً يؤنسها في الليل .
الشجرة مغفرة وسهر الشجرة صلاة واقفة وقديماً قال الشاعر: ليت الفتى حجر وليته قال : ليس الفتى شجرة ويُقال أن شجرة الصندل تُعطر فؤوس قاطيعها . بوذا وشجرة التين وتحدثنا الرواية في رحلة استكشافية لشجرة التين البوذية “شجرة الخلود” أو شجرة الحياة، وهي أضخم شجرة في العالم وتمتد إلى مساحة 5 فدّانات ويبلغ جذعها 846 متراً وعمرها 550 عاماً أو ما يزيد، لذلك فهي شجرة معبودة لأنها رمز للخصوبة والحياة والإنبعاث بعد الموت، وقد زار السيد البوذي جون في باريس بصحبة السائق الجزائري من أصول يهودية. أما حياة بوذا فقد زلزلها عدة ظواهر، أهمها الشيخوخة، فكل إنسان يهرم، والمرض لا سيّما البرص ، وجنازة الميت، وهي دليل الفناء، والرفاه الذي هجره من أجل الهدف الأسمى وهو الخير عبر المعاملة الحسنة وكسب المال الحلال وحفظ اللسان وعدم الإعتداء والتكامل ومحاربة اليأس. وباستعادة للربيع العربي حدثنا بمرارة عن السوري المسيحي أستاذ الفلسفة الذي اشتغل بواباً (حارساً) لإحدى العمارات في باريس، وذلك كان نصيبه من التغيير الذي حلم به والذي جاء على الأخضر واليابس واضعاً موضوع التراكم والتطور التدرجي ومن داخل البلد الأكثر ملائمة له نصب عينه وفي مشروعه. النقد المزدوج وعقدة الهويّة وبشأن لوم بعض الأمازيغيين بميلهم إلى إسرائيل، الذي تردّد في بعض الأوساط، فإن الحديث استبق نقداً للفلسطينيين بأن يكونوا عقلاء وهو ما كان ينبغي توجيهه للإسرائليين المتنكرين لقرارات المجتمع الدولي والأمم المتحدة وعدم استجابتهم للمطالب العادلة والمشروعة للشعب العربي الفلسطيني، ولا سيّما حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وقد ظلت الهويّة هاجساً يطل برأسه باستمرار في زوايا الرواية ومتنها، وإذا ما تضخّمت عقدة الهويّة كما يقول وهو على حق تتحوّل إلى خطر انعزالي(ضيق أفق) مثلها مثل الذاكرة حين لا يتم تدبيرها بطريقة صحيحة فإنها تتحول إلى نوع من الصراع والإحتدام المستمر مع الذات والآخر، ويرى أن شعوب جنوب المتوسط وشرقه تضم العرب والأمازيغ والأتراك والكرد والفرس، وهو يدعو لحوار النخب الثقافية والفكرية، وقد سبق أن انطلقت مثل هذه الدعوة من تونس وكانت مبادرة لكاتب السطور وأعقبها لقاء في بيروت، وكان اللقاء المهم والأوسع، برعاية سمو الأمير الحسن بن طلال بعنوان حوار “أعمدة الأمة الأربعة” وقد شارك فيه سي عبد السلام بحيوية وجديّة، وإذا كانت الدعوة سيتم توسيعها لتضم الأمازيغيين، وهو سؤال كنت قد وجهته: هل الأمازيغية “قومية” وهل يشكل الأمازيغيون “أمة” وأين حدود سقف مطالبها وكيف السبيل لتحقيق ذلك؟ وهو سؤال أطرحه مجدداً في هذه الفرصة، وكنت قد حظيت بإيجابات متباينة ويهمني أن ينفتح النقاش حول هذه المسألة التي اتخذت بُعداً ثقافياً وحقوقياً في المغرب والجزائر، فأنا شخصياً مناصر لأية حقوق عادلة ومشروعة بأفقها الإنساني. مطامح وطنية لا ينسى المحجور وهو في غمرة حزنه مطامح شعبه، فيفتح مع دولوريس ملف اسبانيا وما حصل في الريف إثر ثورة عبد الكريم الخطابي، خصوصاً من استخدام أسلحة محرّمة دولياً، ما تزال تأثيراتها باقية إلى الآن، كما يفتح أيضاً ملف فرنسا وإرثها الإستعماري وهو ما طالب به صديقنا عبد الرحمن اليوسفي رئيس الوزراء الأسبق والشخصية الحقوقية المتميزة وبسببه كما يقول أن فرنسا لا تحبّه.
روح مؤمنة إنه حوار الروح الذي أظهر فيه عبد السلام بو طيب شفافية عالية وحساسية إنسانية دفّاقة ولغة سليمة وأسلوب قص مشفوع بحبكة درامية مثيرة، فضلاً عن بوح أكثر انكشافاً ورؤية استشرافية إنسانية، حتى وإن كان ثمة هنّات أو اختلافات في التوجه والمنطلقات والتفاصيل، لكن الرواية “الشجرة الهلامية” تبقى عملاً مميزاً وفيه حرفيه عالية وخيال خصب ورؤية جمعت القلب والعقل في هارموني متسق حتى وإن تباعدا أحياناً، لكن موسيقى الكتابة والصور السينمائية والبصرية التي احتواها جعلت منه عملاً مثيراً وإيحائياً وجديراً بالقراءة.
وأختم مع سعدي يوسف إتئدْ وإهدأ الآن وإنظر إلى عطر الياسمينة أبيضَ قبل فوات الأوان وأهتف من قلبي دولوريس هل تقبلين صديقاً لك أيضاً بتزكية من عبد السلام بو طيب ؟