متى تمتلئ بُركة فسادنا ؟ *
يتخبط ولد عبد العزيز منذ وصوله فرنسا ، في الأخطاء و التناقضات ، بكل سذاجة ، في هستيريا ما بعدها مَدعاةٌ للشفقة.
كان مؤتمر بوردو خيبة أمل لم يستطع عزيز الخروج من عقدتها بعد . و كانت نوعية الحضور علامة إفلاس من العيار الثقيل : بعد 14 سنة من الحكم ، يعجز هذا المخلوق أن يُؤَمِّن حضور شخصية بارزة واحدة من أي مستوى ، ليجد نفسه بين غوغاء من حاشية الدياسبورا بلا مستوى علمي و لا سياسي و لا اجتماعي .!
هذا المستوى من الإفلاس سيبقى طويلا من خصوصيات عزيز الفريدة.
الجالية الموريتانية في فرنسا فيها الأساتذة و الخبراء و رجال الأعمال من مختلف المستويات و الأثنيات و المشارب و التوجهات ، لم يكن أي منهم مستعدا للظهور مع عزيز ، احتراما لنفسه و لمكانته العلمية أو الاجتماعية.
هذا ما تجاوزه الجميع كأن الجميع يعتبر تلك مكانته الحقيقية.. يعتبر تلك مكانته الطبيعية .. مكانته العامرة بأمثاله من المتسكعين على أرصفة مقاهي باريس الشعبية ..
حديث عزيز عن الفساد ، كان مضحكا و مخجلا ؛ مضحكا حين يعترف بثروته الضخمة المعفية من التبرير ، ناسيا أو جاهلا أن الشرائع و القوانين احتاطت لأمثاله من اللصوص المحترفين بما هو أخطر من كل اتهام (يحتاج بينة من المُدعي)؛ ما ينهك أمثالك من اللصوص و يقطع دابر كل حيلهم هو “من أين لك هذا ؟”
لن تواجه يا عزيز غير نفسك في هذا النزال المحموم.
و مخجلا ، حين يُلمح بما هو أوضح من أي صريح ، باحتمائه بفساد الآخرين، مطالبا بمحاكمة علنية في تهديد مبطن بفضح الجميع ؛ كأن عزيز أصبح يعرف أن سرقة المال العام فضيحة ..!
و هنا يكون قد أدرك نصف مشكلته بنفسه و هو تطور مهم.
و حتى لو اعتبرنا المادة ٩٣ حامية بوضوح لا لبس و لا جدال فيه ، لجهل عزيز و غبائه و نهبه للمال العام ، يبقى ارتكابه جريمة انقلاب على رئيس منتخب (ليس صحيحا أنه هو من أطاح بنظام ولد الطائع)، كافيا لنزع أي شرعية عن حكمه ..
لم يكن عزيز أكثر من قاطع طريق اختطف هذا البلد و عبث بكل ما فيه ، بسبب أخطاء الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله (رحمه الله و غفر له و تجاوز عنه) : أفسد عزيز الإدارة و دمر اللحمة الوطنية و نهب ما فيه و رهنه للديون الخارجية و كاد يحول جيشه و أمنه إلى مليشيات متناحرة لولا حكمة بعض رجالهما.
لقد فرض هذا الوضع المعقد على النظام الاحتفاظ بكبار مفسدي عزيز للشهادة ضده من جهة و للتحكم في المسار القضائي الصعب للفصل بين نهر ماء مَذْقِ الفساد و قليل لَبَنِه (الأفسد) : لم يعد هذا سرا و لم يعد التكتم عليه يجدي في شيء.
و في مواجهة صامتة ، تحفر مجراها بالاتجاه المعاكس، يحاول كبار مفسدي عشرية الشؤم ، البحث عن مظلة أمان بعد انتهاء المحاكمة ، غير واثقين من أي ضمانات لا تبدأ بتبييضهم الآن من خلال دمجهم في الإدارة و الحزب و “رد الاعتبار” لهم بما يجعل نظام غزواني استمرارا لنهج سلفه ، معتمدين على طابور من البشمرگة المأجورة، يعمل على خلط كل المفاهيم و التشويش على كل الحقائق :
– تأجيل النظر في حالة هذا براءة
– عدم محاسبة ذاك شهادة نزاهة
– إعادة تدوير هؤلاء صك غفران .
و هلم جراً على بساط أحلام يقظة ستنتهي حتما بكوابيس مزعجة في صيف ولاتة أو خريف ألاگ..
لقد وضع غزواني جميع أعدائه المحتملين، أمام خيارات صعبة من دون أن يدركوا :
– عزيز لم يعد يستطيع الحديث عن أي استهداف سياسي و لم يعد يستطيع نكران ثروته و لا تبريرها بأي معجزة ..
– أحدثَ غزواني شرخا بين عزيز و أصدقائه (حتى المحتملين) ، لم يعد ردمه ممكنا و لا مجديا من أي طرف..
– كل من شهدوا ضد عزيز تدينهم شهاداتهم و اعترافاتهم ؛ لم يفهموا لجهلهم، أن أوامر عزيز لا تبرر تصرفاتهم المتجاوزة للقانون و لم يفهموا للمرة الثانية أن الرئيس غزواني لا يمكن أن يعطل القانون لصالحهم و لا التغاضي عن خيرات الشعب الموريتاني التي عاثوا فيها فسادا و نهبا على امتداد عقد و نيف من الزمن. و كلها جرائم لا تسقط بالتقادم ، ستظل لعنتها تطاردهم حتى آخر رمق في حياتهم.
* لم يكن هذا الوضع المربك ، الجاثم على واجهة المشهد (الذي احتسبه البعض ، لضرورة مرحلية تُراوغُ دواليب فك الارتباط)، مريحا للغيورين على الوطن ، بل قَطعَ ألسنة جُل من راهنوا على “تعهدات” وضعوا كل بيضهم في سلة إغرائها .
لكن ثقل لحظة الحسم بكل شحنتها الارتدادية ، لا بد أن تفرض نفسها إن لم تفرضها “تعهدات” لن تأتي بشيء إذا لم تنهض بآلام شعب يعسكر في الشمس في انتظار وعد لا تُخمِدُ حُرقتَه شعاراتُ الوعود..
و يحاول كبار رموز فساد عزيز إقناع ولد الغزواني بإمكانية إجراء عملية جراحية تحتاج تمهيدا ذكيا ، يريدون فرضه من دون الحديث عنه لإبعاد الشكوك عنهم ، أي البحث عن تسوية مع عزيز من دون محاكمته.
و هذا يعني أنهم يريدون الحصول على كل شيء من دون أن يخسروا أي شيء :
– تبييضهم من قبل الرئيس غزواني
– دمجهم في النظام كخبرات وطنية عادية و ضرورية حتى ..
– صيانة ماء وجوههم الفولاذية ، بعدم الشهادة ضد سيدهم الذي أنشأهم من لا شيء (في حال حصلت التسوية)
– ليس في هذا ما يفوت غزواني قطعا..
– ليس فيه قطعا ، ما لا نفهم أن عليه وضعه في الاعتبار و التعامل معه..
– و قطعا، لا يمكن أن يكون ما نراه هو حقيقة ما يفكر فيه غزواني في التعاطي مع ما ارتكبوه من جرائم في حق هذا الوطن المثخن الجراح :
– تبييض هذه الوجوه الصدئة المنبوذة من الجميع و بقاؤها في واجهة نظامه، انقلاب على تعهداته، لا يمكن أن تكون إعادة النظر فيه أكثر و لا أبعد من مسألة وقت .
و ينسى هؤلاء أو يجهلون (تماما مثل عزيز) أن التحكم في سلوكهم و في إرادتهم يمكن فرضه بألف طريقة (السجن و مصادرة ممتلكاتهم . (أعني طبعا ، ممتلكات الشعب التي نهبوها دون وازع من ضمير و لا مسؤوليه) …
نحن الآن نلعب بأوراق مكشوفة و بأعلى درجات الصراحة و الموضوعية : لقد راهنا على نظام غزواني لأن فشله سيرمي البلد في مأزق صعب . و لن تكون موريتانيا بلدا فاشلا إذا فشلوا “جميعا” لأنها تمتلك كل أسباب البقاء و النهوض و لن تنتصر علينا مافيا الفساد مهما حصل و مهما تطلبت مواجهتهم من صبر و إصرار إكراما لهذا البلد العزيز و وفاء لأهله الطيبين .
و يعرف غزواني جيدا أن ذئاب الفساد تتفرَّس يوما بعد يوم و تتحكم يوما بعد يوم و تبسط نفوذها بتبجح يوما بعد يوم و تعيد بسط خارطة انتشارها يوما بعد يوم ؛ فهل نصدق ما يقوله الرئيس أو نصدق ما يفعله ؟
هل نفسر ما يقوله الرئيس بما يفعل أو نفسر ما يفعل بما يرفض أن يقوله ؟
كل مبررات الاحتفاظ بالمفسدين تعانق اليوم الاحتفاظ بفساد يفضح كل الأسباب المعلنة.!
مخطئ قطعا من يعتقد أن غزواني يمكن أن يجتاز المراحل المتبقية من مأموريته بمثل هذا الغموض الذي فرضته إكراهات المرحلة الصعبة الماضية (في ما يعتقده الكثيرون)؛ فقد تنتظر الناس ما لا تفهمه لكن من الصعب إقناعها بالسير فيه بعد ثلاث سنين من إدارة الفساد بالفساد و تدوير أباطرته بما يوحي باعتبارهم عمود فقر النظام المؤتمن.!
– ما زال باستطاعة غزواني تغيير حكومته (بحكومة تحمل رسالة توجه جديد ، بنوعية أشخاصها لا بما يرددون ) و بالمعنى الشامل للحكومة : الوزراء ، الأمناء العامون ، المدراء ، السفراء، المستشارون(…).
– ما زال باستطاعته إقناع الشعب بصدق تعهداته و قدرته على إخراج هذا البلد المنكوب من كارثة عشرية الشؤم..
– ما زال باستطاعته إنقاذ ما تبقى من مؤسسات البلد الكبرى (المفلسة كلها) ، إذا قطع دابر الفساد و استعاد ما نهبه المفسدون و فرض إجراءات رادعة لتسيير المال العام..
– ما زال باستطاعته تحويل موريتانيا إلى أفضل وجهة استثمارية في المنطقة إذا عالج اختلالات القضاء و وقف بالمرصاد لاحتيال تجار و رجال أعمال البلد على المستثمرين الأجانب ..
– ما زال باستطاعته أن يرد للبلد هيبته إذا سجن عزيز و أخرس بيرام و أفهم الجميع أن الدولة لا تستجدي أحدًا و لا تساوم أحدًا و لا تفاوض أي مجرم..
– ما زال باستطاعته أن يعيد إلى موريتانيا أمنها و استقرارها و سكينتها ، إذا وضع قواعد للهجرة (الوافدة)، تخدم حاجيات البلد و وضع لها ضوابط تنظيمية تحولها من خطر على البلد إلى غاية لخدمة نموه..
ما أسهلها من أمور يا فخامة الرئيس
و ما أروعك و أصدقك و أعمقك يا متنبي ، حين لخصتها في بيت واحد:
“وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئاً
كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ”
* سيدي علي بلعمش