مقالات

عتبٌ على غضب ردا على مقال “للغضب كلمة مع دستور المغرب /عبد الجليل محمد سالم

بانطباعات متناقضة، تلامس حدود المشاعر التي تمور بين تفهم، بل تبني غضب الكاتب المعبر عنه في جزء من المقال الى رفض وعتب حانق ازاء مواضع عديدة من نفس المقال. مدٌ وجزرٌ بين مرافعة الكاتب الشجاعة وامتلاكه ناصية اللغة ومقصد المحاججة حين تعلق الأمر بتقزيم لغة بني حسان ووضعها موضع الذنب من الجسم اللغوي المغربي من طرف ملك المغرب في خطابه “الدستوري”، وبين سقوط الكاتب المدوي في أدران التوسع ونكئه غير المبرر، وهو الرجل الحاذق، للجرح الذي أحدثه ولد داده ذات يوم في جسد المجتمع البيظاني والذي ما زلنا ندفع ثمنه الباهض الى اليوم، والمتمثل في استمرار احتلال المغرب للجزء الأكبر من الصحراء الغربية، واستمرار معاناة الأشقاء الموريتانيين بالرغم من غنى البلد بثرواته الطبيعية ومقدراته البشرية.
انطباعات متجاذبة، متناقضة، كمن ينظر الى كأس حتى النصف، فلا يدري ان كانت نصف ممتلئة أم هي، فقط، نصف فارغة؛
أولا؛ ففيما يتعلق ب”منكر القول” الذي اقترفه ملك المغرب أمام الملأ وهو يعرض فقرات “الدستور القديم الجديد” حين أجرى عملية البتر العضوي بين اللغة العربية والحسانية، واضعا الأولى موضع التاج من الثقافة والمخزون اللغوي المغربي، وراميا بالأخرى في ذيل المكون، مباشرة بعد اللغة العبرية في تراتبية، بين تابع ومتبوع، مشينة، ظالمة ومثيرة للقرف، كما أوضح الكاتب بكل فصاحة وحصافة عقل. عملية “البتر” غير الناجحة تلك، تصدر عن جهل مستحكم، قد يكون طبيعيا للأسف، لدى “الخطيب” بالعلاقة بين الحسانية والعربية. علاقة تتعدى حدود الكلم واللغة شبه المتطابقة، الى الثقافة والهوية ومنظومة القيم المتكاملة. ههنا تحضرني حقيقة أن الطلاب الصحراويين والموريتانيين الدارسين في المشرق العربي، كانوا لايجدون صعوبة في الاهتداء بكل عفوية الى معاني شوارد اللغة العربية، دون الرجوع ل “لسان العرب” أو “تاج العروس”. في الوقت ذاته، كان زملاؤهم من الطلاب العرب المشارقة في دمشق وبغداد، لا يجدون بدا من التنقل بين صفحات واحالات المعجمين لفك طلاسم الكلمات الشاردة. السبب يكمن في أن وارد اللغة العربية وشاردها اجتمع كله في لسان بني حسان، حتى قال أحد كبار أساتذة اللغة العربية في جامعة دمشق ذات يوم، مخاطبا طلابا صحراويين وموريتانيين: “ان لهجتكم ـ يعني الحسانية ـ ليست سوى معجم تاج العروس وقد بُثت في الحياة”.
تلك الحياة العربية الأصيلة التي تنبعث من كل أركان الثقافة واللغة الحسانية، هيهات أن تُزهق، وستبقى متألقة بالرغم من “جهل الجاهلينا”.
خطاب الملك لايعبر عن جهل فقط، وأستاذنا محمدو ولد البار محق تماما هنا، وانما يعبر عن احتقار ورغبة، بالكاد تُخفي طبيعتها العنصرية، في فصل لغة البيظان الصحراويين المقيمين في الصحراء الغربية، الخاضعين بحد السيف لسلطة الرباط، عن لغة “الأسياد” أصحاب القوة والسلطة، المغاربة في الشمال.
لقد وضعتم، أيها الأستاذ الموقر، أصبعكم على مربط الجمل في كل ما يتعلق بخطاب ملك المغرب ومادته الدستورية التي أحالت اللغة الحسانية الى “رطانة أقلية من بلاد الواقواق”، حين أكدتم أن “قد ظهر أن لا جنس للصحراويين في المغرب”، وهو ما يقودني الى فتح باب العتب على غضبكم. عتبٌ، بالرغم من مرارته، الا أنه لا يخرج عن دائرة المثل الافريقي القديم الذي يقول أن “الخصام في العائلة يدخن أحيانا ولكنه لا يشتعل أبدا”.

ثانيا؛ أستاذي الموقر؛ ان كان لغضبكم سبب واحد، فلغضب أخيك سببان. الأول هو بسبب غضبكم على “أرفود الحسانية، وبالتالي أرفود أهلها أبروس لصباع” من طرف ملك المغرب ودستوره، أما الثاني فسببه أنتم، حين لم تجدوا حرجا في الانتصار للغة الحسانية، وفي الوقت نفسه، ادارة الظهر لأهلها الصحراويين من بني جلدتكم، ممن يدوس الجار الشمالي على كرامتهم منذ اكثر من خمس وثلاثين سنة، يصادر حقهم في الوجود، ويمنعهم يوما واحدا من الديمقراطية يقررون فيه مصيرهم بكل حرية كما تنص على ذلك قوانين وأعراف البشرية.
الأستاذ الكريم يأخذ على خطاب المغرب أن “ترك الصحراويين بدون جنس في المغرب”، وهو يتركهم بدون اسم ثابت، ويبخل عليهم، فيما عدا الفقرة السالفة الذكر، بالاسم الذي ارتضوه لأنفسهم؛ الصحراويين. لذا فقد بدا من الواضح جدا في المقال ترنح الكاتب بين مشاعر “الانتصار للغة الحسانية” وبين معتقدات توسعية بالية، كنا نتصور أن العقود الثلاثة الأخيرة قد محتها الى غير رجعة. لذا، فعبارات من مثل “الشناقطة الموريتانيين”، “الشاعر الشنقيطي الموريتاني الصحراوي”، “العرب الشناقطة في المملكة المغربية”، “الشناقطة الصحراويين الموريتانيين” “الأقاليم الجنوبية العربية الموريتانية الشناقطة”…. الخ، قد تكررت كثيرا في عرض المقال. وبالرغم من أن كل الصحراويين يفتخرون بانتمائهم مع الشعب الموريتاني لنفس الثقافة، الا أن ذلك الافتخار لا يعني، ولم يعن في أي يوم من الأيام، قبولا بأي شكل من الأشكال، بتبعية سياسية من أي نوع، وحرب منتصف سبعينات القرن الماضي، أثبتت ذلك.
الأدهى، سيدي الكريم، ان تمتلك الجرأة بعد كل الدمار والمأساة الذي لحق بالشعبين التوأمين الموريتاني والصحراوي، بأن تشيد “ببعد نظر المخطار ولد داداه”، مستدلا بمخططه لاقامة دولة البيظان الكبرى التي تضم موريتانيا الحالية، الساقية الحمراء ووادي الذهب، أزواد وربما مناطق أخرى، في اعادة انتاج تتداخل جغرافياً، وتتأسس على نفس المبدأ التوسعي المقيت مع نظرية “المغرب الكبير” سيئة الذكر لصاحبها علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال المغربي.
ضمن نفس السياق، تعتبرون أن خروج موريتانيا من النزاع، هو بسبب “تنازل العسكريين عن شعب وادي الذهب”، متناسيا، عن عمد فيما يبدو، تضحيات الشعب الصحراوي وكفاحه البطولي ضد سياسة ولد داداه التوسعية ووضعه يده في يد “الغريب ضد الشقيق”، باعتبارها السبب الأول والأخير الذي قاد الى انقلاب يوليوز 1978، ومهد لاتفاقية السلام الموقعة بين الحكومتين الصحراوية والموريتانية، غشت 1979.
ان انتصاركم الجميل للغة الحسانية لا يستقيم مع ادارتكم الظهر لحق الشعب الناطق بها في تقرير المصير والوجود. موقف يفهم ضمنيا من خلال اقصائكم كلمة “الشعب الصحراوي” من كل المقال، وبدا واضحا من خلال اطرائكم لمغامرة ولد داده التوسعية التي قادت الأشقاء من الشعبين الى الاقتتال فيما بينهما. اقتتال، في اعتقادنا، وفي اعتقاد غالبية الموريتانيين، كان حادث طريق عارض في مسيرة الأخوة وحسن الجوار والتعاضد القائمة بين الشعبين منذ أكثر من ثلاثة عقود. نفس الموقف بدا مقرفا، بل مشينا مع اعتذاري لوقار شيبكم، حين أوردتم “و نود هنا أن أناشد اخوتنا الصحراويين وبني جلدتنا في جنوب المغرب”. فاذا كانت كل شعوب المعمورة من صغار الجزر المعزولة في المحيط الهادي الى الولايات المتحدة الأمريكية لا تعترف للمغرب بأي نوع من السيادة على الصحراء الغربية، فكيف بكم، وأنتم أقرب الأقربين، أن تتبع بجرة قلم أرضا، يناضل أهلها منذ أكثر من 35 عاما من أجل حقهم في تقرير المصير، الى بلد محتل حسب كل اللوائح والمواثيق الدولية.
أستاذي الكريم، أشعر بمرارة لاتقاس، وانا مضطر لمخاطبتكم، لا كما نخاطب السواد الأعظم من الشعب الموريتاني المؤمن بحقنا في الاستقلال والحرية، وانما كما نخاطب الغرباء الذين لا تربطنا بهم صلة خاصة، بأن نطلب منكم الانتصار، فحسب، لحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير، وأن يختار، بكل ديمقراطية ان كان يريد الانضمام للمغرب أم الاستقلال الوطني. لا أحد أدرى من الصحراويين بمصلحتهم، ولنا أن نحيي، في هذا الصدد، موقف جبهة البوليساريو المشرف، في اعلانها استعدادها لقبول أية نتيجة تتمخض عنها الاستشارة الديمقراطية. بالمقابل، لنا أن ندين جميعا موقف المملكة المغربية الرافض للاستفتاء، اعتقادا يقينا منها أن الصحراويين سيختارون خيار فك اغلال الاحتلال ومعانقة الحرية.
وأخيرا، لا يفوتني الا أن ألفت كريم انتباهكم مرة أخرى، الى أن الانتصار، ضمن السياق المغربي، للحسانية دون الانتصار للشعب الصحراوي، ينم بالنسبة للمثقف الوطني الموريتاني عن جهل معين بحجم التكالب الجيوسياسي الذي يطال مستقبل اللغة “الحسانية” وأهلها “البيظان” في المنطقة. فاللغات والثقافات لا تعيش في زنازن القهر، وانما في كنف الحرية والسيادة الوطنية لشعوبها. فبالرغم من النضال السياسي اليومي للصحراويين في المناطق الخاضعة للاحتلال المغربي، الا أن زيارة سريعة لمدينة العيون اليوم تعطيك الانطباع الكافي بأن المغرب لا يختلف في شيء عن الدول الاستعمارية التقليدية من خلال استهدافه محو اللغة والثقافة الحسانية ونجاحه في ذلك الى حد كبير خاصة لدى فئة الشباب. فكل يوم يتأجل فيه استقلال الصحراء الغربية، تفقد فيه الثقافة الحسانية موطأ قدم في المنطقة. واذا ما نحن أضفنا لما يجري في الصحراء الغربية، فقدان الحسانية التدريجي للكثير من حضورها القومي في موريتانيا بسبب الحضور المتسارع للغات والثقافات الافريقية، فالصورة تكتمل، لتنبئ بمستقبل قد لا يبشر بالخير في هذا الاطار.
في هذا الصدد، لا ينبغي أن يغيب عن ذهن استاذنا الموقر، أن المغرب كان يطالب بالسيادة على موريتانيا الى وقت قريب. والقراءة الحقيقية لموقف ولد داداه، قد لا تكون ايمانا منه ب”دولة البيظان” على شاكلة “مغرب علال الفاسي”، وانما خطوة تكتيكية لابعاد ساحة المعركة والمطامع التوسعية المغربية عن الحدود الوطنية الموريتانية والتحالف مع الشيطان من أجل ذلك، من خلال التورط في احتلال الجزء الجنوبي من الصحراء الغربية. الى حد الساعة، ما زالت تلك الخطوة تعطي ثمارها تكتيتكيا، بسبب استمرار الشعب الصحراوي في نضاله من أجل الحرية والاستقلال. لكن نجاحها الاستراتيجي يتوقف على مستقبل النزاع في الصحراء الغربية. فخيار الاستقلال، يؤمن بشكل نهائي على الحدود الوطنية الموريتانية. فيما عدا ذلك، فأحلام “المغرب الكبير” ما زالت حاضرة، وبقوة، في ذهنية المخزن في المغرب. أو لم يقل الشاعر:
ان العدو وان أبدى مسالمة اذا رأى منك يوما فرصة وثبا
واستمسحكم عذرا، أستاذي الفاضل محمدو ولد البار، ان كنت قد تجرأت، بهذا العتاب الحاد، بعض الشيء على مقامكم الموقر. جرأة أتت بفعل الصدمة، لكنها، في نهاية المطاف، لن تتعدى حدود “دخان الخصام العائلي الذي لا يشتعل”.

عتبٌ على غضب
ردا على مقال “للغضب كلمة مع دستور المغرب”، للكاتب محمدو ولد البار، المنشور على موقع وكالة “الاخبار” الموريتانية المستقلة بتاريخ 03 غشت 2011.
بقلم: عبد الجليل محمد سالم

مواضيع مشابهة

2 Comments

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button