أخبار

امينتين : امرأة من صخور آدرار/بورتريه

بين الشخصية والمكان علاقة تأثير عجيبة تصل أحيانا حد التماهي.. لم أستطع الوصول الي نموذج يجسد هذه النظرية أكثر منها، تلك الأرملة الخمسينية التي تكاد شخصيتها – من فرط قوتها- تكون قد نحتت من صخور آدرار .

عندما تحدثت معها أول مرة، كانت الساعة تشير الي السادسة إلا ربعا.. كنت قد استيقظت للتو بغية استكشاف المدينة التي كانت البارحة ليلتي الأولي فيها.. عكسي كانت امينتين تفي بعهد قطعته علي نفسها منذ الصغر ان تصحو باكرا لتتفقد أعمالها التي تعيل من خلالها أسرتها المكونة من ثمانية أبناء.

كانت محاولتي اكتشاف سحر جغرافية المدينة النائمة بين سلسلتى تيكيدست وجبال “المعرظ” و”تنوازدى” مناسبة لاكتشاف ما هو أكثر روعة وسحرا بالنسبة لي كمناضلة نسوية.. بكل بساطة طغى سحر الشخصية على روعة المكان .

عدم توفيقها، مثل غالبية النساء في موريتانيا، في تلقي تعليم يسمح لها بالتصدي للحياة التي باتت تلقي بعبئها علي كاهلها، لم يزدها إلا إصرارا علي المواجهة وهي التي فقدت رفيق دربها ووجدت نفسها، بدون أية مقدمات، مسؤولة عن إعالة أسرة كاملة في محيط ريفي من صعوبته تحولت الحياة فيه الي ربح في حد ذاتها.

يطلقون على ناحية المدينة هذه، حيث نمت البارحة، وحيث تسكن امينتين: “أوجفت لوْلـَـه” لأن السكان نزحوا تحت ضغط الرمال الى الغرب أين تقع أوجفت الثانية وأوجفت الثالثة اللتان من المحتمل ان ينزحوا منهما قريبا بسبب الرمال أيضا الى أوجفت الرابعة .

نظرت باتجاهات عدة فلم يتراء لي سوى أطلال مدينة ومبنى نقطة صحية كانت شاهدا يوما على ان مركز المدينة كان هنا. استغرق تجوالى في المكان رفقة امينتين نصف ساعة.. عند عودتنا وجدت ان رفاقى فى المهمة قد استيقظوا وبدأوا الاستعداد لليوم الاول من العمل حيث قدمنا لمساعدة السكان فى مكافحة التصحر عبر برنامج حماية الواحات فى موريتانيا.

تربع مسؤول الشباب فى المنطقة (الذي نطلق عليه مزاحا “بن لادن”) لصنع الشاى.. التف الجميع حول صديقتي “امينتين”.. اعتبارا لخبرتها في شؤون التنمية في القرية كان الجميع ينصت لما تقوله.. خلص نقاش جلسة الشاي الي اعتماد خطة لتقاسم المسؤوليات من اجل الإسراع في انجاز العمل.

الساعة تشير الى السابعة وربع.. المجموعة تتوجه الى منطقة العمل حيث تهاجم بلا هوادة الرمال المتحركة مجاميع النخيل الخضراء المنتشرة على سفوح “تيكيدست” محولة محيط الواحة الجميلة الى صحراء مجدوبة لا أثر فيها للحياة رغم الطبيعة “الذكورية للمهمة” كانت نساء القرية اكثر حماسا واستعدادا للعمل معنا.. صديقتى امينتين تقول:”شوفى احنا افكرش بعد من الرجاله” وتشاكس السائق الذى يطلب من إحدانا ان تتقدم للركوب الى جانبه قائلة: “ذاك سابقو ش …. إمام لمسيد والطرنيشه”.

تابعنا طريقنا وسط بحر من الرمال.. كانت عجلات السيارة ذات الدفع الرباعي من صعوبة العبور تعاني كثيرا قبل تجاوز ترابه .. وصولنا الى نقطة انطلاق المقطع المخصص للمنظمة في مشروع “تثبيت الرمال في اوجفت ” الذى لا يبعد الا كلمتر ونصف بعد ساعة من السفر كان انجازا في حد ذاته ٫

وجدنا أعضاء رابطة التنمية التشاركية في المقاطعة قد وصلوا قبلنا.. بدأنا صعود الكثبان الرملية التى تحاصر واحات “ابركان” من الشرق.

علي مرتفع احد كثبان بحر الرمال هذا عرفتني امينتين علي رفيقتها في الكفاح ” فاطمة ” تلك السيدة التى تمتلك واحة باتت تحت رحمة الرمال التي تحاصرها.

رفضت ” فاطمة ” ان تبيع واحتها التى تقول عنها انها تراث و”عقود” الأجداد وأن التخلى عنها هو استسلام لتلك الرمال التى تحاصرها ونكوص عن العهد . يتفق اعداء فاطمة قبل اصدقائها على نموذجية الشخصية التى تمتلكها.

لمينتين مع فاطمة قصة منحت السيدتين سمعة أسطورية في محيط آدرار ٫ تعود القضية الي عام 2001 حيث عكفت السيدتان علي مدار 8 سنوات علي تشييد سد بطول 1500 متر من اجل حماية اوجفت من خطر السيول.. حفرت السيدتان في الصخر وأنجزتا المشروع في وقته المحدد ووفق المعايير المطلوبة .. اليوم تقف حجارة السور شاهدة علي قوة المرأة الموريتانية ان هي منحت لها الفرصة.

تبدو خطوط الزمن واضحة على محيا ” فاطمة ” التى تشترك مع رفيقتها ” امينتين ” في كون جمسيهما لا يكادان يتحملان طاقتهما الشبابية المتوقدة.

قوة شخصية السيدتين وصلابة إرادتيهما دفعت خبراء التنمية فى المملكة المغربية اللذين قدموا الى الواحة يأخذونهما معهم الى مدينة مراكش للتدريب على طرق مكافحة الجفاف وحماية الواحات.

تحتفظ امينتين في منزلها بعدة شهادات استحقاق من جهات مختلفة وطنية ودولية .. إنتاجية المرأة وتميزها في مجال المشاركة في التنمية هي محور التكريمات.

حكت لي صديقتي “الآدرارية ” عن قصة احد اكبر شواهد انتاجيتها ٫ يتعلق الآمر بانجاز مشروع “هوائ ارسال ” تابع لشركة موريتل موبيل ٫ صعوبة تثبيت العمود الهوائي في تربة “اوجفت ” الصخرية ذات الممانعة الشديدة لوسائل الحفر جعلت من المشروع محل رفض من قبل كثير من المقاولين متلهفين للربح السهل ٫ الا ان “امينتين ” بشخصيتها العاشقة للتحدي قررت انجاز المشروع ٫ ( ضحك على الجميع، لكن ذلك كان بمثابة الدفع بى إلى الأمام لأثبت لهم جميعا اننى قادرة على الحفر فى الصخور )، تقول “امينتين.”

استلمت السيدة المشروع الذي كان انجازه يتطلب استعمال مادة TNT وقامت بنفسها بحفر الخندق مع عمال اجرتهم لذلك ٫ ( كنت ادخل الحفر التى سنفجر فيها مادة التفجير لتكسير الصخور ) تصف المرآة كيف اشرفت علي العمل ٫ نجحت ” امينتين “فى مشروعها وانجزت المهمة التي ساهمت الي حد بعيد في تنمية و رسم مستقبل المقاطعة ٫ مرة اخري عم حديث الاعجاب بامرآة الريف الحديدية .

بعد تحديد المقطع وتقسيم نقاط العمل فيه علي الفاعلين في القرية وعلي رأسهم اميتنتين وصديقتها فاطمة ٫ وعلي كثيب يطل علي القرية متوعدا بزحف قريب علي ما تبقي من مبانيها ٫ التفتت الي “امينتين” ساخرة وقالت : ” اياك ان تتغترى بمعسول كلام هؤلاء الرجال فإنك ان أوكلت اليهم عملا فلن تجنين إلا الخسارة، انهم لا يتقنون اكثر من الكلام “.. ما ان كادت تنهي جملتها حتي بدا محمد لمين بالقول: ” ان هذه العجوز امراة ماكرة ” عندها دخل الآثنان في مطاردة بعد ان ضربته بالنعل ٫انه ابن قريتها وزميلها فى العمل .

تصر امينتين دائما علي تذكيري بما تقول انها حقيقة توصلت إليها نتيجة خبرتها الطويلة في الحياة بأوجفت ٫ حتي وأنا أصعد الي السيارة مودعة لها علي أمل لقاء قريب معها ٫ تمسك بطرف ملحفتي لتؤكد لي بنبرتها الساخرة: “الرجال هنا يعملون اقل ويحصدون اكثر ، بينما النساء هن من يحصدن اقل رغم أنهن يعملن اكثر “..انها خلاصة تجربة سيدة من طينة خاصة .

مكفولة بنت ابراهيم ناشطة جمعوية

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button