رواية الكاتب الموريتاني محمد فال ولد الدين .. أول خطوة جسورة نحو الرواية العرفانية
أنباء انفو- يقدم الكاتب الموريتاني أحمد فال ولد الدين، في روايته الأخيرة، الثالثة، “دانشمند” (دار مسكلياني/تونس، ديسمبر 2023)، عن أبي حامد الغزالي “حجة الإسلام”، نموذجا فنيا طيبا: رواية معرفية دون ثرثرة مزعجة، عرفانية دون دعاوى باردة، أنيقة اللغة دون تكلف، نقية الأسلوب العربي الخالص دون ثقل.
وقد راقبت فيها نضجه الفني، وتخففه من ثقل غشى من بعض الوجوه روايته الأولى التاريخية، “الحدقي” (2018)، وكانت عن الجاحظ. وبينهما كانت روايته الثانية، غير التاريخية، “الشيباني” (2019).
أشك في صدقية الرواية التاريخية إذا مر بها القارئ غير المختص دون توقف أو استشكال.. حول الألفاظ والتراكيب والمصطلحات. إذ من دلالة هذا العبور السلس غير المستشكل أن الكاتب لم يوفق إلى روح عصر روايته، وأنه كتب رواية معاصرة ذات خلفية تاريخية باهتة!، ومن شأن الخفة اللغوية والأسلوبية أن تدل على خفة مضمونية وريبة في صدقية القص وجديته.
كما أنني لا أعتبر “الرواية العرفانية” المكتوبة بلغة “منزوعة العرفان”! لا سيما حين تبدو الرواية أشلاء ممزعة: فاللغة راقية عرفانية حين يكون الاقتباس من المصادر، نازلة لفظا ومعنى حين يكون سرد الروائي من “كيسه” المثقوب!
وقد نجا أحمد فال الدين، في “دانشمند”، من كلا العيبين. حيث كتب روايته بلغة عالية لفظا ومبنى، راقية محتوى ومعنى. نعم.. ليس أحد معصوما من خلل أو نزول هنا أو هناك. وقد وقعت من فال الدين هنات كنت أتمنى ألا تكون، وقد كان من السهل ألا تكون بمزيد من التمحيص والتدقيق وهما عليه هينان. لكن العصمة ليست إلا لمعصوم ومحفوظ. على أن الهنات في “دانشمند” لا تعكر بوجه عام صفو النص، ولا كونه خطوة مهمة في طريق رواية معرفية عرفانية بعربية وفنية تليقان بالمعرفة والعرفان معا.
هنات
وإذ ذكرت الهنات، فقد تحسن الإشارة إلى بعضها، طلبا للتأمل فيها، ثم تلافيها (حين يجب التلافي) في قابل الطبعات بإذن الله.
وأبدأ بعنوان الرواية ذاته. حيث ضبطت كلمة “دانشمند”، في الغلاف والمتن جميعا هكذا: “دانشمند”. وقد استشرت بعض أهل الخبرة من المدققين في الفارسية، وخلاصة إفادتهم أن الفصيح في الكلمة كسر النون، وهي لهجة أهل إيران حتى الآن. على أن فرس أفغانستان يفتحون النون، ويعرف مثقفوهم أن فتحها من “الدراج”. وعليه.. فإنني أرجح كسر النون، لأفصحيتها، أو على الأقل التنبيه إلى المسألة إن رؤي الإبقاء على فتح النون.
وتتمة لمسألة “دانشمند” أقول، بكلام أهل الخبرة، هي مقطعان: “دانش” و”مند”. أما “مند”، فكاسم الموصول “ذو” عندنا. وأما “دانش”، بتفخيم الدال، فتشير إلى معان متداخلة، جمعها العلم والعقل والحكمة. وهي هكذا، “دانشمند”، معرفة، فلا يجمع إلى تعريفها الإضافي التعريف بالألف واللام. ومن اللطيف أنني وجدت أن قرية إيرانية صغيرة تدعى الآن “دانشمند”، وهي إحدى قرى محافظة “غلستان” (گلستان) في إيران.
ولا يمكنني، في مقال كهذا، تتبع عشرات الهنات التي رصدتها في نسختي موضعيا. لكنني سأتجاوز اللغوية منها، وبعضها من جهة البناء أو الضبط، وبعضها من جهة الوقوع في الأخطاء الشائعة لفظا أو معنى، وبعضها من جهة اختلاط الدلالات الاصطلاحية بين زمني القص والأحداث. وبعضها أخطاء كتابية، أي سبق يد، على أنها عديدة.
الحبكة
سأتجاوز هذه الهنات الموضعية إلى بعض ما يتصل ب”الحبكة” وتفاصيل السرد (كتابة ومضمونا). وهنا، أيضا، أكتفي بنماذج فقط.
1. يفترض بالخط المائل أنه، في اصطلاح الرواية، حديث الشخصيات عن نفسها، بينها وبين نفسها. فيلزم أن يكون بضمائر المتكلم. وقد وقع كثيرا المزج بين الضمائر في هذا الخط المائل. والقول بتجريد صاحب الحديث النفسي من نفسه نفسا تتحدث عنه بضمير الغائب قد يوقع في اضطراب يحسن تجنبه. وفي الجانب التحريري: كنت أحب أن تميز هذه المواضع في أسطر خاصة، بدلا من مزجها في الفقرات بما قد لا ينتبه معه إلى بعضها بعض القراء.
2. تعرضت الرواية لفصل مهم من فصول حياة الغزالي الأولى، التي يمكننا تسميته فيه “الغزالي القديم” (على غرار ما صنع الشيخ سعيد النورسي، في سيرته الذاتية، مع فصلي حياته الكبيرين). ومن ملامح شخصيته فيها تعصبه لمذهبه الشافعي، تعصبا أداه للتنقص من بعض الأئمة الأعلام ومذاهبهم، ومن أبرز من وقع فيهم وقوعا صريحا قبيحا: الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان. وفي الفصل الخامس من الرواية يتناول فال الدين ملاحقة الحنفية الغزالي بسبب إساءته في كتابه “المنخول” إلى إمامهم الأعظم أبي حنيفة. وجعل تاريخ الفصل سنة 482. ولأسباب عديدة، منها تاريخ وفاة الجويني (478)، أرى الأنسب أن يكون تاريخ الفصل قبل 482 ببضع سنين. والله أعلم. ثم لا تعود الرواية إلى هذه السقطة الغزالية بما يجب، حيث كان يحسن جدا إبراز توبة “الغزالي الجديد” من تلك النزعة التعصبية الجاهلية، وتصريحه بالندم على ما فرط منه بخصوص أبي حنيفة وسواه. وكان الفصل 81 (المؤرخ بسنة 490) مناسبا جدا لإبراز هذه التوبة وذلك الندم.
وفوات هذا مما قد يؤثر فيمن لا يعرف سياقات الغزالي وتفاصيلها، فلا يعرف مثلا أن كتاب “المنخول” من أوائل كتبه، وكان في حياة شيخه الجويني، فتنطبع في ذهنه هذه السقطة الكبيرة دون خبر التوبة منها. كما أن هذا التنبيه الواجب من حق أبي حامد شخصيا، من زاوية دينية ومعرفية.
لكني كنت، بصورة شخصية، أتطلع إلى بعض التفصيل في المسألة، ولو من زاوية نقدية، فلا يلزم الروائي بالمنافحة الدائمة عن بطل روايته، وإظهاره بمظهر مثالي غير واقعي. بل إن هذا باطل ومضر، وإن وقع كثيرا من كثير من كتاب الرواية التاريخية!
4. تؤرخ الرواية الفصل رقم 89 بسنة 499. وكان آخر فصل ذي صلة بالغزالي هو الفصل رقم 85، المؤرخ بسنة 492. أي أن لدينا فجوة زمنية مقدارها نحو 7 سنين، في أولها سقطت القدس (شعبان من سنة 492).
وهنا أيضا تأتي المسألة السابقة هنا مباشرة! فضلا عن أن في سقوط 7 سنين من حياة شخصية محدودة العمر نسبيا فجوة سردية في سياق رواية تاريخية شخصية.
5. أتساءل عن سبب بهوت حضور أحمد الغزالي، شقيق أبي حامد! وقد كان من شأن حضوره إثراء السرد الحكائي والعرفاني معا، وهو من هو في السياق الصوفي، وإن كان دون أخيه شهرة
6. يتناول الفصل 48 (تاريخه: سنة 487، وكان الغزالي لا يزال يدرس في “النظامية”) بدايات الأسئلة والشكوك التي قادت الغزالي ل”تغريبته الروحية”، الفاصلة بين شخصيتيه “القديمة” و”الجديدة”. ثم يعرض الفصل التالي، رقم 49، مشهدا مطولا للغزالي مصليا ومحيرا في مكتبته الشخصية بمنزله. وبالطبع.. تظهر في المشهد معاناته العقلية والروحية.
وهنا لي اقتراحان. الأول: أن يكون الفصل 49 مكان الفصل 48 في الترتيب، حيث تسبق المعاناة الشخصية تحدثه حولها مع “الشيخ الأصلع”. والثاني: أن يكون الفصل 48 (بالترتيب الجديد المقترح مني) بداية باب مستقل يختص بهذه الأزمة الروحية خطيرة المضمون وبعيدة الأثر في حياة الغزالي الشخصية والعلمية، بل في السياق الروحي والعلمي حتى يوم الناس هذا!
7. يورد الروائي على لسان الغزالي قوله: “هل فات أبا بكر وخالد بن الوليد خير إذ لم يسمعا قط هل المقتول ميت أم لا؟”. والحق أن هذا حجاج “سلفي” بارد، لا أظن مثل الغزالي، حتى في مرحلته تلك (حيث غدا “الغزالي الجديد”) يتدنى إلى مثله، حيث بقيت عدته المنطقية والحجاجية وافرة صارمة حتى وفاته!
8. في الصفحة 278 ينتظر الغزالي، متهللا، “الخليفة” المكروب المأمور من قبل “السلطان” بمغادرة بغداد. تساءلت هنا: ما داعي التهلل؟! أبعقل دانشمند شيء؟
9. في الصفحة 140 يرفع نظام الملك يده ويضرب بها وسادة “حتى تردد صوت الضربة في الفناء الواسع”. تساءلت هنا: أي وسادة هذه التي تحدث كل هذه الجلبة في فضاء واسع؟
10. تحدث فال الدين غير مرة عن “بنايات شامخة” في مدن ذلك الزمان (القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي). وهذا مستغرب، لا سيما في سياقات جمهور الناس، لا الملوك والسلاطين.
أكتفي بهذه العشرة، محيلا الصديق أحمد فال الدين إلى نسختي الشخصية التي نوهت فيها إلى كل الهنات بأنواعها (بحسب ما رأيت. وإلا.. فقد أكون مجانبا الصواب في بعضها. والله أعلم).
تاريخية معرفية
أستحسن في الرواية التاريخية المعرفية، لا سيما إن كان الكاتب فنانا جادا مثل أحمد فال الدين، أن يلحق بها ملاحق إيضاحية.. منها:
– مسرد تأريخي زمني للأحداث الواقعية. أحداثا وأعلاما. لا سيما إن كان محور الرواية شخصية واقعية. وقد يحسن جعله في سياق تفاصيل شخصية الرواية ذاتها.
– مسرد بالشخصيات الحقيقية.
– مسرد بالشخصيات والأحداث المتخيلة، ترميما للفجوات التاريخية، وتمتينا للحبكة السردية.
– مسرد لغوي لألفاظ الحضارة، العلمية والحياتية، المنتمية إلى حقبة الرواية.
– خرائط بمواقع الأحداث زمن الرواية، وخرائط حديثة بها تحديد تلك المواقع الآن (بلادا وأسماء).
كما أنني أوجب عليه، إيجابا، الحرص والتدقيق في كتابة أسماء الأعلام والبلدان والمواضع والمذاهب وما إليها، وضبطها ضبطا صحيحا مفيدا. وقيد الصحة واضح.
أما قيد الإفادة، فلأن أكثر الكتاب حين يعتنون بالضبط يضبطون السهل الشائع، ويتحاشون الصعب والمشتبه وغير الشائع. وهذا مما يغيظ، لا سيما إن كان في كلمة واحدة! وقد وقع في بعض هذا فال الدين (مثلا: ماذا أستفيد حين يضبط “النضد” ص 169، بدلا من: “النضد”؟!). على أن إهمال الضبط، على إغاظته، أهون إغاظة ممن يخبط خبط العشواء فيما لا يحسن!