الوحدة الوطنية (موريتانيا نموذجا) / محمد فاضل سيدي هيبه
كم مرة في اليوم نسمع هذه العبارة أو نقرأها على شاشة مشهدنا السياسي و فضاء إعلامنا..
الوحدة الوطنية! عبارة أصبحت مبتذلة من كثرة التكرار و الاستخدام العشوائي.. فصار من اللازم إعادة الاعتبار إليها كونها ترمز إلى ضرورة حياتية هي الوحدة و الاتحاد الذى هو السلاح المضاد
و الأكثر نجاعة فى مواجهة ظاهرة الاختلاف و التناحر المدمّرة و المتربصة فى كل آن و حين.
ما هي الوحدة الوطنية إذن؟ و ما هو دورها فى تطوّر المجتمعات و بناء الأوطان؟.. ما هو مدى صدقية هذا الشعار الذى يرفعه رجال السياسة على الدوام من دون تحديد محتواه، حيث لا يعتبر خطيب خطابه مكتملا إلا إذا صدح به بصوت عالي، و حيث يرى كل حزب برنامجه ناقصا ما لم يدرجه فى أول ديباجته؟ هل الذى يحرّك هؤلاء وأولئك هو الحرص الصادق على الوئام الوطني و التآلف بين طبقات المجتمع و مختلف الحساسيات السياسية؟ أم أنهم يجعلون من هذا الشعار أداة لتحقيق غايات شخصية أو اديولوجية؟ أم هو مجرد مادة لملء فضاء أبيض في وسائل الإعلام و برامج الأحزاب التى لا برامج لها؟ هل هو موضة من الموضات السياسية الرائجة التى لابد من مواكبتها و الجري وراءها؟.. و ما علاقة الوحدة الوطنية بالهوية القومية و بالديموقراطية؟..
أسئلة سنحاول أن نجيب عنها مدفوعين بمجرّد الرغبة في إثارة مسألة محورية لم تشكل قط مادة لنقاش أو حوار جاد في الوقت الذى تدار الندوات و تدبّج المقالات في مسائل كثيرة تافهة أو على الأقل ليست لها أهمية هذا الموضوع.
لكن قبل هذه الإجابة لا بد من التذكير بحقيقة، بل بمسلّمة لها تأثيرها الحاسم على كل مبادرة ذات طابع وطني و بخاصة فى ما يتعلق بالوحدة الوطنية، كما سنرى. هذه المسلّمة هي بكل بساطة أن موريتانيا لا تتمتع بسيادتها التامة و ما زالت واقعة تحت النفوذ الفرنسي سياسيا و ثقافيا و اقتصاديا.. يشهد على ذلك تخلفها و واقعها المزري بعد مضي خمس وخمسين سنة من “الاستقلال” كما بيّنت ذلك فى معالجة سابقة يمكن الرجوع إليها فى بعض المواقع الالكترونية، و كنت الوحيد فى طرق هذا الموضوع الذى يبدو أن الجميع يفضلون السكوت عنه لسبب لا يعرفه الا الله.
ما هي الوحدة الوطنية؟
الوحدة الوطنية مفهوم حديث و مصطلح ظهر مع تكوين الدولة الوطنية المعاصرة، لكنها كظاهرة إنسانية، قديمة قدم المجموعات البشرية المتحضرة نفسها و تتجلى تلقائيا من خلال التفاف الناس حول الحاكم عندما يكون عادلا و وطنيا، وهي أسفا الحالة الأندر كون تاريخ البشرية يغلب عليه التنافر و العداء، أو بمناسبة حدوث أمر جلل فى حياة هذه المجتمعات كغزو أجنبي، أو كارثة طبيعية، زلزال أو وباء أو جفاف أو غرق…
أما التعريف الأكاديمي للوحدة الوطنية فهو صعب لغياب هذا المفهوم من المناهج التعليمية و الدراسات و الرسائل الجامعية و غيرها من المنشورات. لكن يمكن أن نقول إنها ثمرة تضافر و تفاعل عناصر الانسجام مع عناصر التباين القائمة فى المجتمع من جهة، و التوظيف الإرادي المعقلن لهذا التفاعل بغية تحقيق الأهداف السامية للأمة من جهة ثانية.
عناصر الانسجام هي: الرغبة الطبيعية و الاستعداد الفطري عند البشر للتعاون و الاتحاد من أجل بناء المجتمع، إضافة إلى الدين الذى يدعو لبلوغ الغاية نفسها. و لا بد أن نشير هنا إلى خاصية منّ الله بها على شعبنا و قلّما تتوفر فى المجتمعات الأخرى أعنى انتماء هذا الشعب بأكمله، عربه و عجمه إلى دين واحد هو الإسلام و مذهب واحد هو المذهب المالكي. انسجام تام إذن داخل منظومتنا الدينية حيث لا ديانات مختلفة و لا طوائف متنازعة..
من عناصر الانسجام الأساسية الكامنة فى المجتمع كذلك الشعور بالانتماء لوطن واحد يلحق الضرر بالجميع فى حالة حصول أي خرق لسفينته، و إدراك وجود مصالح مشتركة داخل النسيج الاجتماعي يتعيّن دائما على الجميع المحافظة عليها… و إن كان هذا الشعور ما زال مع الأسف ناقصا إلى حد بعيد عند شعبنا.
أما عناصر التباين، و يسميها الماركسيون التناقضات، فتتلخص فى العلاقات القائمة داخل التكوينات المختلفة الفئوية و الطبقية و القومية و الثقافية الخ.. فى ما بينها هي من جهة و بينها و بين محيطها من جهة ثانية.. و هو تنوع لا يكاد يحصى. منه الخاص بالمنطقة و الولاية و الجهة و الشرائح الاجتماعية، و منه العامل القبلي و تنوع اللغات و الطوائف المذهبية الخ…
ما هو دور السلطة الوطنية إزاء هذه الفسيفساء الاجتماعية؟ دورها هو تحويل هذه العناصر والمواد الخام و لملمة هذه الطاقات الآتية من آفاق شديدة التنوع و الاختلاف مع عناصر الانسجام و التوحّد الموجودة أصلا، و صهرها فى قالب مندمج و فى خطة إستراتيجية دائمة التحديث لانجاز الأهداف المنشودة.
إذا تفحّصنا عناصر التباين واحدة واحدة سنجد مثلا أن المناطق أو الولايات متباينة فى مستويات النمو و الصحة و التعليم الخ… و أن التمايز الطبقي مستحكم فى المجتمع و أن شرائح الحراطين والصناع و أزناكا و ايكاون واقعة في الحيف، و أن المرأة متأخرة عن الركب، و أن الأقليات الزنجية تطالب بمزيد اعتبار و أن الأغلبية العربية تشعر بمحاولة لطمس هويتها و هلمّ جرا…
إن الخطأ الذى ترتكبه الأنظمة المنغلقة التى لا تؤمن بالانفتاح على مطالب الناس و حقوقهم هو نظرتها السلبية المبدئية إلى كل ظاهرة تباين و منها المطالب المشروعة المختلفة التى تأتى من الجهة المقابلة، جهة الشعب. هذه النظرة هي أكبر خطر على الوحدة الوطنية حيث تعمّق الصراعات القائمة بين مختلف المكونات الاجتماعية و القومية لتظل السلطة هي الحكم بينما هي أصل البلاء. لكن لكي تتقدم هذه العناصر ـ أو المطالب ـ إلى أمام متضافرة مع القيم الايجابية الثابتة للمجتمع فى تناغم و تكامل، فإنها تحتاج إلى توفّر عاملين أساسيين هما الاستحضار الدائم لهذه القيم الموحّدة (بكسر الحاء) كالدين و الوطنية و المصالح المتشابكة، بغية توظيفها في تذليل التناقضات و تقارب الأهواء و الأمزجة من جهة، و من جهة ثانية إلى تفعيل الدور الحاسم للسلطة الوطنية فى الدفع بهذه العملية المزدوجة إلى مستوى من الفاعلية يحقق النتيجة الرائعة التى نسميها الوحدة الوطنية.
بعبارة أخرى فعندما تعالج الاختلالات المجتمعية الكبرى، أو يخفف من غلوائها على الأصح لأن الحلول المثالية غاية لا تدرك، فسيصبح الوطن مهيئا لقفزة حضارية تتحقق فيها أهداف الرقي و العدالة و المساواة.
علاقة الوحدة الوطنية بالديموقراطية
يكاد المفهومان أن يكونا مترادفين لأن كل واحد منهما يتضمن مبدأين أساسيين هما العدالة و المساواة. فبقدرما تهيّؤ الديموقراطية ـ بواسطة أدواتها المعروفة ـ الأرضية لتفجير الطاقات و مختلف المطالبات بالحقوق المتعددة فان الوحدة الوطنية هي الحاضن و الموجّه لهذه الطاقات. الديموقراطية تساعد على بروز الاختلالات إلى العلن من خلال حراك حميد هدفه حمل الجهة المخوّلة أي الدولة و سلطتها التنفيذية على القضاء علي هكذا اختلالات.. و الوحدة الوطنية تجنى الثمار و توزّعها بعدالة على الجميع. الشيء الوحيد الذي لا تتصوّر معه لا الوحدة الوطنية و لا الديموقراطية هو بطبيعة الحال الحكم الفردي و الدكتاتورية. مثل هذه الأحكام لا يقبل إلا نمطا واحدا من الوحدة، وحدة أساسها تقديس الحاكم و سدّ الباب أمام أي رأي مخالف. حتى و لو تظاهرت هذه الأحكام فى وقت ما بعكس ذلك و أتاحت بعض الممارسة الشكلية لحرية الرأي أو التنظيم.
إليكم مثالان للتكامل بين الوحدة الوطنية و الديمقراطية : عندما تم الاعتداء على جنودنا فى مناسبات عدة (لمغيطي، نواكشوط…) هبّ الشعب لنصرة الجيش و تداعت الأحزاب و منظمات المجتمع المدني لخلق رأي عام نتج عنه جو من التلاحم و التوحّد كان بمثابة رسالة رادعة للإرهابيين.
نموذج ثاني لهذه الصورة: حالات العطش التى عانت منها بعض مناطق الوطن الداخلية مثل مقطع لحجار. تحرك الإعلاميون و السياسيون و بقية الرأي العام تضامنا مع المواطنين المتضررين لتسليط الضوء على المشكلة و وضعها فى دائرة الاهتمام حتى تمت معالجتها. فى كلتا الحالتين كان التكامل جليا بين مختلف الناشطين و يقظة المواطنين و عمل الدولة. لولا التكامل بين هذا الثالوث لربما عاود الإرهابيون اعتداآتهم بعد ذلك و زاد العطش فى فتكه…
يقظة الفئات الاجتماعية المسحوقة و دورها فى الوحدة الوطنية
ان الوعي المتنامي ـ و المفاجئ شيئا ما ـ للشرائح الاجتماعية المظلومة تاريخيا يعد من أبرز التحولات التى شهدها البلد منذ عقود من الزمن. الحراطين أو العرب السمر هم الفئة الأهم من حيث الوزن العددي و من حيث طبيعة وضعهم الاجتماعي عبر التاريخ و فى الوقت الراهن كذلك.. أما تاريخيا فأغلبهم ينحدر من آباء أجبروا على السقوط فى الاستعباد فى زمن سحيق كان و ظل يقع عليهم خلاله عبء تحريك الماكنة الاقتصادية البدوية، وضع سمته القهر و العذاب و سحق إنسانيتهم.
يبدو إذن أن الظروف بدأت تنضج بالنسبة إلى رجال و نساء هذه الشريحة حيث قذف بهم إلى واجهة الأحداث عبر تيار جارف لا يبدون مستعدين لوقّفه إلا بعد رسوّ سفينتهم على شاطئ الحرية التى ينشدون.
لقد بدأ تيار “الحر” أبرز المنظمات المناهضة للرق و الداعية إلى تحرر الحراطين أواخر الثمانينات و حقق نجاحات معتبرة لأطروحاته تمت ترجمتها إلى واقع ملموس و متدرج من خلال تزايد وعي أبناء هذه الشريحة لواقعهم و طريقة تغييره نحو الأفضل، و مشاركتهم المعتبرة فى تسيير شؤون البلد فصار منهم وزراء و سفراء و نواب، و منحهم جو الديموقراطية إمكانية تأسيس أحزاب و منظمات و غيرها من التشكيلات المدنية و أصبحوا ينتزعون حقوقهم شيئا فشيئا على نهج سلمي ملفت سيسجله لهم التاريخ كمستوى عالي من النضج و الروح الحضارية.
إن الحراك ألمطلبي و السياسي للعرب السمر يعانى رغم ذلك كما هي الحال بالنسبة إلى التنظيمات المجتمعية و السياسية الأخرى من خلافات و تجاذبات متكررة، و هي ظاهرة صحية على كل حال لكنها قد تحمل فى طياتها بذورا على العكس من ذلك.
يمكن تصنيف مجموعات هؤلاء الفاعلين إلى فئتين، فئة مندمجة فى اللعبة السياسية ككل مع قدر من الاحتفاظ بخصوصيتها، و فئة خارج هذه اللعبة إن صح التعبير، أو على الأقل لها قدم فى النظام السياسي الرسمي و أخرى خارجه، و هي حال منظمة “ايرا” غير المرخصة. يختلف النهج السياسي لهذه الحركة عن المنظمات و الأحزاب الأخرى حيث تتبنى خطا متطرفا تطبعه عنصرية صريحة تجاه العرب البيض و صلة وثيقة بمنظمة “فلام” البولارية ذات الخطاب العنصري هي الأخرى.. و قد أحدثت “ايرا” فى المشهد السياسي الموريتاني ضجة و جدلا لا سابق لهما عندما أقدم قادتها و على رأسهم زعيمها الكاريزمي و المثير للجدل بيرام ولد الداه ولد عبيدي، على حرق بعض كتب الفقه المالكي باعتباره يكرس النخاسة. خطاب “ايرا” المتطرف يجد صدى له عند بعض زعماء النقابات و المنظمات الحقوقية من أمثال السامورى ولد بي و بو بكر ولد مسعود.
إن التيار الاجتماعي ـ السياسي للحراطين مهيأ ربما أكثر من غيره إلى لعب دور أساسي فى مسار الوحدة الوطنية باعتبار وزنه و ديناميكية النخب التى تقوده و خطه السياسي و الاجتماعي التقدمي و المعتدل فى آن.. لكنه يحتاج مع ذلك إلى تجديد فى منهجه و توضيح لبعض رؤاه على مستوى المبادئ، مثل حسم و تأكيد هويته العربية التي تنبني على الثقافة و على رأسها اللغة و على التاريخ المشترك مع أشقائهم البيض رغم ما تخلل ذلك التاريخ من ظلم لمجموعتهم، و على المساكنة و الوشائج الأخرى كالسيكولوجية و الآمال المشتركة… كما يلزم هذه الفئة تجنب الوقوع فى فخ عوامل اللون و الأصل و الانتقام كأساس لبناء موقفها تجاه أشقائها هؤلاء.. هذه الهوية الطبيعية و الواضحة المعالم يوجد من يشكك فيها و يحاول جرّ الحراطين إلى متاهة يكونون فيها إما تابعين لمكوّنة الزنوج التى لا يربطهم بها إلا عامل اللون، كما تدعو لذلك أقلية منهم متواجدة بالأساس فى منظمة “ايرا”، أو يستحدثوا قومية مستقلة أنى لهم أن يجدوا لها مقومات.
الشرائح الشعبية الأخرى المهمّشة تاريخيا هم “الصناع” أو “لمعلمين” و المطربين “ايكاون” و “أزناكا” و هم فئات من المجتمع العربي.. أما “الصناع” فهم الأكثر عددا و أقسى اضطهادا رغم دورهم التاريخي فى نشأة و تطور المجتمع البضاني العربي حيث كان يقع عليهم ضمن نظام “توزيع المهام” المعتمد الجانب اللوجيستي و التكنولوجي إن صح التعبيران، مما أعطاهم ميزة فى وظيفة العقل و “شطارة” يعترف لهم بها الجميع.. و إن تحوّلت هذه الميزة إلى موضوع سخرية منهم.. يا للعجب!
كم كانت بالفعل محزنة و ظالمة و فى نفس الوقت مثيرة للحيرة مكافأة التاريخ لهؤلاء الحرفيين ـ الضرورة !. منبوذون.. ليست الصفة مبالغا فيها فوضعهم يذكّر بطائفة “المنبوذين” الهنود الذين لا يختلط بهم و لا يتزوّج منهم.
لحسن الحظ ليست هذه الشريحة الهامة والمعتبرة عدديا بمعزل عن ما تشهده البلاد من تحولات. فقد بدأ الوعي يدب فيها، و ما التجمعات و الكتابات و النشر عبر الإعلام التى يقوم بها نشطاهم إلا إرهاصات هذا الوعي و ليس من شك فى أنه سيتواصل فى إطار وحدة وطنية يكون لهم فيها دور مميّز.
أما مجموعة “ايكاون” فتغلب أهمية دورها الثقافي و التاريخي على حجمها العددي المتواضع. فهي تكاد تكون مؤسسة بحد ذاتها تضطلع بأدوار تاريخية كل واحد منها له أهميته الخاصة : فنّ الغناء و الطرب، السهر على الموروث الشعبي بألوان طيفه المختلفة.. فضلا عن دورها فى تهذيب بلاطات الأمراء و نفخ معاني الفتوة فى الأرستقراطية العشائرية.. لقد نالت هذه “المؤسسة” كغيرها نصيبها من التطور الحتمي و لم تعد جوالة بين مختلف الأوساط لكسب رزقها و لا “مملوكة” لأمير من الأمراء و لا هجّاءة و لا مدّاحة على الطريقة القديمة.. لكنها استقرت على حالها على غرار فئات المجتمع الأخرى و طوّرت حرفتها تمشيا مع إيقاع الظروف العصرية. دون أن تتخلى رغم ذلك مع الأسف عن اعتماد احتكار هذه الحرفة، احتكارا عفا عليه الزمن، ولا عن تمسكها الرجعي المتزمت بامتهانها وراثة.
مهما يكن من أمر فان المطربين، الفنانين، كما يطلق عليهم اليوم مؤهّلون هم الآخرون للعب دور كبير فى لمّ شتات الشعب الموريتاني عبر فنّهم الذى يستطيع تعميم رسائل الحب بين مكوّناته و دعوة الجميع الى تبنى المواطنة كقاسم مشترك و تسليط الضوء على ما تحمل الانتماآت الضيقة من سلبية و خطر على النسيج الوطني. لكن مع التأكيد خلال هذه الحملة التهذيبية على تمكين القوميات المختلفة من نيل حقوقها كاملة و ضرورة انفتاحها بعضها على البعض…
فئة “أزناكا” أخيرا. هي فئة موكّل إليها تاريخيا بتسيير النشاط الحيواني، وهي و إن كانت تعتبر فى السلّم المتدني من المجتمع إلا أنها اليوم ذابت كفئة أو تكاد بفعل التمدن و تغيّر الطرق التقليدية للتنمية.. لكن التهميش و معه اعتبار الدونية ما زال معششا على مستوى الأفراد. فالازدراء و الاحتقار يلازمان كل شخص عرف أنه ينحدر من هذه الفئة و التعامل معه يكون من فوق و تمنع معه آصرة الزواج.. لا شك أن من مصلحة هؤلاء الانخراط فى عملية التوحد الوطني التى تقتضى إذابة الفوارق البائدة بين شرائحه.
الوحدة الوطنية و الهوية القومية
عندما نتكلم عن الوحدة الوطنية فأول ما يتبادر إلى ذهن أغلب الناس هو العامل القومي و العلاقات بين القوميات المكوّنة للشعب. هذا على الأقل فى موريتانيا التى يوجد بها مشكل قومي مزمن. و ما دام هدفنا هو تحديد العلاقة بين هذين المفهومين، الوحدة الوطنية والهوية القومية فسنحاول ابتداء تقييم الوضع الذى توجد عليه المسألة القومية فى بلدنا.
فى موريتانيا تتعايش مجموعتان أثنيتان هما المجموعة العربية التى تشكل الأغلبية (فى حدود 85%) من السكان الذين يقدر عددهم بما يقارب ثلاثة ملايين و أربع مائة ألف نسمة، و أقلية أفريقية تتكون من البولار أو التكارير و السوانك و الولوف. تبلغ نسبة عدد هذه المجموعة إذن حسب تقديرات غير رسمية ما بين 12 إلى 17 % من السكان.
العرب يتكلمون دارجة يطلق عليها “الحسا نية” (نسبة إلى بني حسان الذين فتحوا البلاد فى القرن ال17 م) يقال إنها أقرب اللهجات العربية إلى الفصحى. أما الأفارقة الزنوج فلكل مجموعة لغتها و هي جميعها دارجات لم تتحول بعد إلى لغات مكتوبة إلا فى حدود ضيقة لا تزال بعيدة عن التدريس.
تعود بداية الوجود العربي فى موريتانيا إلى منتصف القرن الحادي عشر مع دخول الإسلام فى هذه الربوع على يد القادة الأوائل ثم تعزز فى القرن السابع عشر خلال الموجة الثانية من الهجرات العربية الوافدة عبر المغرب العربي. فى هذه الفترة تعرّبت (كما يقول المرحوم جمال ولد الحسن) القبائل البربرية تلقائيا من دون أي إكراه من الفاتحين و بموازاة اعتناقها الدين الإسلامي و رغم ما جرى بين الفريقين من حروب كان طابعها دينيا و ليس عرقيا أشهرها تلك المسماة “شر ببا”. تلقفت هذه القبائل اللغة العربية بسرعة و بنت بواسطتها صرحا دينيا و ثقافيا ما زالت البلد تفتخر به إلى اليوم.
البربر هم إذن السكان الأصليون للبلاد و قد انصهروا مع العرب الوافدين فى منظومة ثقافية يطبعها الانسجام و وحدة اللغة. أما الزنوج فكان تواجدهم فى الجنوب الشرقي للبلاد فى ذلك التاريخ من خلال إمبراطوريتي مالي و غانا. و إذا عدنا إلى ما قبل التاريخ، أي حوالي القرن العاشر قبل الميلاد فتشير بعض الآثار و بعض رسومات الكهوف إلى ما يعتقد أنهم السكان الأصليون لموريتانيا، بشرتهم داكنة و يطلق عليهم أحيانا “البافور” وربما تسميات أخرى.
على كل فان تاريخ موريتانيا و ما قبله لم يكتب بعد و ما يدرّس فى مدارسنا لا يعدو كونه شذرات تفتقر إلى الدقة أولا و إلى الشمول ثانيا.
بالعودة إلى الوضع الراهن للمشهد القومي للبلاد الموريتانية و العلاقات بين مكوناتها الاثنية يجدر بنا فى البدء وضع هذه القضية فى إطارها التاريخي أي منذ حصول البلاد على الاستقلال (مع كبير تحفظ على هذه التسمية) سنة 1960.
يبدى كثير من الكتاب و المحللين حساسية غير مبررة عند الحديث عن موضوع العلاقات بين المكوّنات القومية و ربما كان ذلك التهيّب انعكاسا لميزان القوى الذى هو منذ التاريخ المذكور لصالح نظرة الأنظمة المتعاقبة التى لا تريد فتح باب البحث فى الموضوع خشية تغييرهذه النظرة فلجأت أوولى هذه االسلط أي حكم المرحوم المختار ولد داداه إلى تسمية سهلة يفترض أن “ترضي الجميع” لكنها فى الواقع أقرب إلى الصبيانية، هي “همزة الوصل” .
عندما قررت فرنسا تغيير أسلوب سيطرتها على مستعمراتها الأفريقية و سحب قواتها ومنح “الاستقلال” لهذه المستعمرات، و فى نوع من الاستمرارية ذات الطابع المدني لمجموعتها القتالية المعروفة ب”الرماة السنغاليين”
أبقت على عدد من الموظفين الإداريين الزنوج الذين كانوا تحت إمرتها فى سان لويس ضمن آليات إدارة الإقليم الموريتاني التي ستنتقل في ما بعد إلى نواة العاصمة الجديدة نواكشوط .. ثم تم دمج هؤلاء فى الإدارة الناشئة و عيّن منهم وزراء و مدراء و موظفون. كان حظهم من الإدارة طبعا أوفر والاعتماد عليهم ربما أكبر كونهم تعلموا اللغة لفرنسية فى ما كان العرب يعزفون عنها نكاية بالمستعمر. ولم يكن للعربية بطبيعة الحال وجود فى الشأن الإداري لكن هذه اللغة ستصبح فى ما بعد محور صراعات غيّرت الكثير فى المشهد السياسي المتحرك للدولة الفتية.
لقد خاضت نقابة المعلمين العرب فى تلك الآونة نضالا قويا تجاوز الإطار ألمطلبي و زعزع هيمنة اللغة الفرنسية و أعاد للمواطن الموريتاني فى خضم نشاط التيار القومي العربي الناشئ شيئا من الأمل فى مستقبل هويته. لكن هذا التيار كان يعبر فى بداية أمره عن مشاعر القهر و الكبت القومي ليس بميزان الحكمة و التعقل لكن بالعاطفة الجياشة و التعصب، مما أدى الى تجاهل الزنوج و مطالبهم، و بحجة تشبثهم باللغة الفرنسية صنف النشطاء العروبيون الزنوج على أنهم أعداء.
فى شهر فبراير 1966 وقعت أحداث عنف مؤلمة بين التلاميذ العرب و التلاميذ الزنوج على خلفية إدخال اللغة العربية فى بعض صفوف الإعدادية. امتدت هذه الأحداث إلى عدة مدن و كانت بداية لتحول عميق لدى المكون الزنجي الذى اعتبر أن محاولة إدخال العربية فى التعليم من طرف السلطات و رغم محدوديتها ـ لأن فرنسا بالمرصاد على كل حال و هي التى ما تزال مسيطرة رغم مظاهر الاستقلال ـ بمثابة إقصاء لهم و فرض لغة عليهم لم يختاروها مما يهدد مستقبلهم المهني و هويتهم الثقافية. ثم توسعت شكاوي الأقلية الزنجية لتشمل المطالبة بالمساواة و القضاء على تهميشهم فى الاقتصاد و التوظيف فى ما ذهب بعض المتطرفين منهم إلى اتهام العرب كمجموعة بممارسة نظام الآبارتايد ضدهم و هي حال المنظمة المتطرفة السرية التى تأسست بعد أحداث 1966 تحت اسم “جبهة تحرير أفارقة موريتانيا” و المعروفة اختصارا ب”فلام”. طغى اسم و نشاط هذه المنظمة على المشهد الزنجي بأكمله حيث لم يظهر فيه أي توجه آخر و لا أحزاب و لا منظمات مما ميّز “القضية الزنجية” بوحدة نضال ملفتة لم يشبها أي اختلاف ولا أي انشقاق خلافا لأحزاب و منظمات أخرى تختلف و تنشق و تتشظى إلى كيانات جديدة.. هذه الميزة مضافا إليها دينامية و روح المخاطرة و التضحية التى يتمتع بها أعضاء المنظمة أغرت الأخيرة بالرفع من سقف عملها و قررت تسلق قلاع الجيش الحصينة لتشكل تنظيما تحت الأرض بهدف الانقضاض على النظام “العنصري العربي ـ البربري” و إعلان جمهورية “الوالو” كما أدلى بذلك أثناء محاكمتهم قادة الانقلاب الفاشل الذى كان التنظيم على وشك تنفيذه فى العام 1987. كما يعزى لهم نية عملية انتقام واسعة تتضمن التصفية الجسدية لجماهير من المكوّن العربي فى حالة نجاح الانتفاضة. أما هم فقد أعدم منهم المئات حسب ما يقولون و سجن البعض خلال محاكمة تفتقر للعدالة و الشفافية.
فى العام 1990 و قعت هزة أخرى تمثلت فى شبه حرب مع جمهورية السنغال المجاورة على خلفية نزاع بين منمي من الفلان الموريتانيين و مزارع سينيغالي. راح ضحية لهذا النزاع مئات (آلاف؟) من الموريتانيين المقيمين فى هذا البلد و من السنغالين من أصول موريتانية و هجّر نصف مليون منهم الى موريتانيا فى ظروف غير انسانية و تم نهب ما قدر بعد ذلك بأكثر من 300 مليار فرنك افريقي من أموال الموريتانيين. فى الجهة الأخرى قامت السلطات الموريتانية بتسفير عشرات الآلاف السنغاليين الى بلدهم و علق بهم عدة آلاف من الموريتانيين السود و تعرضت ممتلكاتهم إلى النهب على نطاق واسع و فقد الكثير منهم وظائفهم و قضوا ما يقارب عقدين من الزمن فى المنفى السنغالي الشاق.. لكن كان من حسن حظ هؤلاء أن قامت بتأطيرهم منظمات سياسية رفعت قضيتهم الى مستوى دولي حيث تبنتها منظمة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة على الفور و استفادت هذه القضية من الإعلام أحسن استفادة… فى ما لم يتبنّ أحد قضية الموريتانيين و السنغاليين من أصول موريتانية و لم تدافع عنهم أية منظمة و لا أي حزب سياسي لا فى الداخل ولا فى الخارج و تركوا لمصيرهم لم يتحدث عنهم إعلام و لا استفادوا من أية مساعدة على الإطلاق غير العون السخي الذى بادرت بتقديمه لهم السلطات الموريتانية و الرجال و النساء الموريتانيون. حتى منظمة الأمم المتحدة لللاجئين ظلت غائبة عن هذه المأساة كأن لم تسمع بها. و ما هو بالمناسبة سر هذا الصمت الرهيب؟ هل لأن الأذرع الطويلة للسنغال كانت بالقوة التى تمكنها من وأد القضية برمتها؟.. هل هناك دولة عظمى وقفت كعادتها الى جانب محميتها هذه بكل ثقلها و منعت ماكنة التضامن من التحرك و العمل كما يجرى عادة فى مثل هذه الظروف؟ أم هل أن الحلقة الأضعف فى هذا المحيط، موريتانيا، عجزت كعادتها هي الأخرى عن الانتصار لمواطنيها، سيما أنهم جميعهم من المكوّن العربي المتروك لمهب الريح أصلا؟.. و فى الأخير هل سيظل هذا التخلي السرّيالي عن شعب فى خطر و الخذلان الإجرامي و المشين من جميع الأطراف “المسؤولة”، و على رأسها دولة السنغال و المفوضة العليا لللاجئين و الهلال الأحمر ثم النظام الموريتاني و المنظمات الحقوقية التى لا تحصى.. هل سيظل بلا تبعات و لا جزاء؟.. و حتى دون بحث و لا تحقيق بهدف إجلاء الحقيقة و تحديد المسؤوليات؟
لقد اتهمت “قوات تحرير الأفارقة الموريتانيين”بخصوص هذه المأساة بلعب دور فعال فى ما تعرض له الموريتانيون فى المدن السنغالية آنذك من خلال التحريض و البحث عن الضحايا.
فى تلك الأثناء بالذات قرر ما تبقى من منظمة “فلام” بعد الانتقام الشديد الذى واجهها به نظام معاوية ولد الطائع حمل الكفاح إلى الفضاء الخارجي، تحديدا فى دول الجوار السنغال و مالى و بوركينا فاسو و فى أوروبا و أميركا.
استطاعت “فلام” فى منافيها الجديدة خلق زخم إعلامي كبير و أطّرت مجاميع كثيرة من الأنصار معظمهم من دول افريقية جاءوا من أجل العمل فى بلاد الغرب مدّعين الجنسية الموريتانية.
بعد ما يقارب عشرين سنة من الغربة قرر قادة المنظمة العودة الى موريتانيا و الاندماج فى المعترك السياسي و تشكيل حزب مدني متخلين عن الخيار العسكري الذى كانوا يتبنونه، و إن لم يقوموا بشيء يذكر فى ذلك المجال. أما “خرجتهم” السياسية الأولى بعد العودة كانت بإعلانهم المطالبة بحكم ذاتي للزنوج. إعلان استقبله الرأي العام باستهجان مدوّ.. لكن أفكارهم و ممارستهم البعيدة عن الروح الوطنية و ما ينسب إليهم من عنصرية نجت من “الغضب” الإعلامي و “حصافة” أهل الرأي.
بالرجوع الى تداعيات ما يسمى بأزمة 1989 كانت السلطات الموريتانية بدءا بولد الطائع و كل بطريقته الخاصة منهمكة فى عملية “تسوية الإرث الإنساني” و آخر القائمين عليها نظام ولد عبد العزيز الذى أبدى استعدادا فاق التوقعات للتجاوب مع مطالب المرشحين للعودة، و بجميع شروطهم المعلنة. تم إغلاق هذا الملف رسميا مع المعنيين و بمشاركة هيئة الأمم المتحدة للاجئين بعد ما منح العائدون جملة من التعويضات المعنوية و المادية أولها كان الاعتذار الرسمي من رئيس الدولة و الصلاة على الغائب التى أقيمت فى مدينة كيهيدى ثم تسليم الوثائق المدنية لكل العائدين بلا استثناء و منحهم قطعا أرضية و رؤوسا من الماشية و هكتارات للزراعة و مبالغ مالية و أشياء كثيرة أخرى.. الكل باشراف هيئة وطنية أنشأت خصيصا لهذا الغرض برأس مال بلغ حسب المراقبين 17 مليار أوقية.
هذه التسوية و إن كانت ترضى جمهور العائدين إلا أنها تظل ناقصة فى عين بعض النشطاء و هو أمر متوقع إما لجهة الطمع فى الحصول على المزيد من المنافع.. و إما لأسباب اديولوجية تهدف أقلية من المتطرفين بواسطتها “مرتنة” أكبر عدد من الأشخاص الأجانب المعبئين لهذا الغرض غير بعيد فى الجوار فى ذلك الوقت، حيث يحتج هؤلاء أن الآلاف من الموريتانيين المهجّرين ما زالوا ينتظرون فى مالى على وجه الخصوص و فى السنغال تارة.
التسوية أثارت قلقا كذلك و شكوكا و بخاصة من العرب فى جانبها المتعلق بهوية الممنوحين حيث يجزم البعض أن الكثير منهم و من متسللين منتهزين الفرصة سينغاليون و لم يكونوا موريتانيين البتّة.
معوّقات الوحدة الوطنية
من نافلة القول إن العائق الأساس لكل عمل يرمى إلى إصلاح أي خلل فى واقع البلد يكمن فى تدنى الوعي المدنى و السياسي للشعب ككل.. و أن الجهل الضارب أطنابه فى جل الأوساط الاجتماعية هو السبب الأساس فى هذا التدني الذى بدوره يؤدى مع عوامل أخرى مثل التعصب و ضيق الأفق إلى مطبات يكاد يكون من المستحيل معها انجاز وحدة وطنية يجد فيها الجميع مبتغاه و تعطى دفعا لتطور البلاد و نموها. و ما دامت التناقضات الشرائحية و الفئوية الضيقة قابلة أكثر للتسوية، و العلاقات بين المكوّنات القومية هي الأعصى على محاولات الدفع إلى التقارب و إصلاح ذات البين، فإننا سنركّز على الأخيرة.
إلى ذلك فان التشخيص الذى وضعنا بكل تجرّد و موضوعية يبقى غير دقيق ما لم نبرز الدور التخريبي الذى تلعبه السيطرة الفرنسية الصامتة و إصرارها الدائم على إبقاء الفرقة بين مكوّنات الشعب الموريتاني القومية.
من تجليات هذا الدور هيمنة اللغة الفرنسية رغم لا دستوريتها على المشهد الثقافي و على الإدارة، رغم دستورية العربية الشكلية و وجودها الفضفاض فى التعليم، و ما تسببه هذه الهيمنة من تفرقة واضحة بإيهامها بعض هذه القوميات و هم الإخوة الزنوج بأن خلاصهم فى التشبث بالفرنسية و التمسك المبدئي بها و رفض العربية، و قد استثمرت فرنسا كثيرا فى هذا المنحى.. لا تنسوا إصلاح 1979 الذى قسّم، بتدخل مباشر من فرنسا، المدرسة الموريتانية إلى قسمين، التلاميذ العرب إلى العربية و التلاميذ الزنوج إلى الفرنسية، سدا للطريق أمام أية إمكانية للتواصل بين مواطني البلد الواحد.
من معوّقات الوحدة الوطنية كذلك غياب الحوار و التواصل الثقافي بين النخب العربية و نخب الأقليات الزنجية غيابا تاما و تجاهل بعضهما البعض و اتهامه بالخيانة و اللاوطنية. غير أن الإنصاف و الموضوعية يفرضان علينا الاعتراف بأن النخب الزنجية هي التى ظلت تنادى و حتى اليوم بالحوار حول التعايش بين الفئات القومية لكن دون أي تجاوب من العرب.. ربما بسبب الانهيار الذى أصاب التيار القومي العربي على اثر القمع الهيدالي له ثم الطائعي الذى يبدو أنه استأصله.. و لو إلى حين. و كذلك بسبب النكسات التى أصابت التجربة القومية على مستوى العالم العربي.
ظل القوميون يتهمون الزنوج بأن أغلبهم غير موريتانيين و أنهم متجنسون جدد لا يبلغون 5% من عموم السكان عند الاستقلال، و هؤلاء يوصمون العرب بالعنصرية و الشوفينية و الاقصائية الخ… و الواقع أن كلا منهما ـ اذا أردنا أن نحكم ـ معه جزء من الحقيقة. فالقوميون العرب كانوا فى بدايات حركتهم يتبنون خطابا عنصريا و اقصائيا واضحا و إن عملوا على تهذيبه فى ما بعد مستفيدين من مرحلة نضج قد مروا بها لكن بقي ذلك الخطاب المستفز مطبوعا فى ذاكرة إخوتهم الزنوج.. إلى اليوم. كما أنهم فى غمرة نشاطهم المطلبي الثقافي تجاهلوا حق المكوّن الزنجي فى تطوير ثقافاته و لغاته.. أما النشطاء القوميون الزنوج، وبخاصة منهم البولار، فلا يقلون انغلاقا و عنصرية تجاه إخوتهم العرب الذين لم يعترفوا لهم حتى بانتمائهم للأمة العربية و يطلقون عليهم تسمية من عندهم يغيظونهم بها هي “العرب ـ البربر” كما أنهم يبدون حساسية مفرطة تجاه اللغة العربية و يتظاهرون بشكل مستفز بحب الفرنسية نكاية بها.. أما الهجرة القادمة من الجنوب و التجنس المصاحب لها و هي واقع لا يمكن إنكاره و لا السكوت عليه، بخاصة من المكوّن العربي، فمن المفروض أن لا يكون للزنوج الموريتانيين فيه دخل، بل من واجبهم الوطني أن يرفضوه و ينددوا به مثل أي مواطن لكنهم رغم ذلك يلتزمون صمتا مريبا.. بل ينافحون عنه عندما يندّد به أحد أو جهة ما.
ليس سرا بالفعل أن حركتي “فلام” و “لا تلمس جنسيتي” و ذيلهما حركة “ايرا” تسعى إلى تكثير سواد الفئة التى تدعى انتماءها لها بكل الوسائل حتى و لو أدى ذلك الى غزو البلد من طرف الأجانب. و لا يعوّل على كل حال على السلطات الموريتانية مع الأسف فى مهمة التصدي بحزم لهذا الغزو لما ثبت عنها من تساهل مع مزوري الجنسية و المخالفين لقوانين الإقامة و من إهمال لمراقبة الحدود، مما يدل على فشل نظام الهجرة المعتمد و فتح الباب واسعا أمام غرق البلد بالغرباء و إمكانية خروجه من يد أهله و رميهم فى أتون التشرد . توجد أمثلة من هذا السيناريو المخيف، سيناريو الاستعمار الاستيطاني البشري الذى ابتليت به فلسطين و بلاد أخرى عبر العالم مثل أميركا و أستراليا التين شهدتا إقامة حضارة أوروبية على أنقاض شعبي الهنود الحمر و الآبوريجين الأصليين.
يجب أن نفرّق فى هذه المسألة بين النشطاء المتطرفين الذين هذه هي رؤيتهم، و هم أقلية على كل حال و من الإخوة البولار أساسا، و جمهور المواطنين الزنوج الطيبين البعيدين عن أية نزعة تآمرية و بخاصة فى الأرياف، الذين مازالوا محتفظين بمشاعر المحبة و الأخوة الإسلامية التى تربطهم بأشقائهم العرب منذ قديم الزمن و التى من أبرز مظاهرها تعلقهم باللغة العربية التى يجيدها الكثير منهم و يعتبرونها بحق لغتهم، و كيف لا و هي لغة المسلمين كافة.
صحيح أنهم لم يعربوا علنا فى ما مضى من الزمن عن رفضهم للتصرفات الطائشة و العنصرية لمن يتحدثون و يتحركون باسمهم و ما ذلك إلا لبعدهم عن واقع المدن التى تجرى فيها الأحداث و لقدرة الجماعات السياسية التى تختطف حقيقة واقعهم على التضليل و المغالطة. وعليه فمن يحمّل الجماهير الزنجية البريئة عنصرية و طيش عصابات ضالة و مخربة فهو خاطئ و مغفّل.. لكن قد حان بالمقابل للعقلاء من هذه الفئة من الشعب أن يعلنوا رفضهم القاطع و تنديدهم لمثل هذه الأفكار و الأعمال.
وجهة نظر كأساس للنقاش
لم تكن هوية الشعب الموريتاني القومية المنقوشة فى الواقع و فى التاريخ، و لم يرد لها أن تحدّد فى الممارسة السياسية و لا فى النصوص المؤسسة لها. بل أريد لها غير ذلك ضمن سياسة رسمية للدولة الفرنسية التى استعمرت موريتانيا ثم منحتها استقلالا أعرج أسوأ من الاستعمار المباشر. موريتانيا جزء من غرب افريقيا لا غير. نقطة إلى السطر. هكذا قررت فرنسا… و نفّذت. و بعدها النظام الذى نصّبته بهدف بقاء وجودها الاستعماري و سار على نهجه كل الأنظمة التى تعاقبت بعده. أما التاريخ و الجغرافيا فلاغيان حسب المنطق الفرنسي الفظ دائما.. إلا ضمن ما قررته فرنسا.
لكننا نقول نحن إن موريتانيا إذ تقع جغرافيا بداهة فى غرب افريقيا (أو شمال غربها) و بها مكوّن بشري ذو ثقافة افريقية إلا أن تاريخ أغلبية شعبها و هويته الثقافية تجعلانه جزءا لا يتجزأ من الكيان ألمغاربي العربي. من هنا كان بالأحرى أن يكون التوجه العام و السمة الأساسية لسياستها منسجمة مع هذا الواقع. لكن ما حصل هو العكس بانقلاب الآية حيث تم ربط البلد تعسفيا و بشكل مصطنع بغرب إفريقيا. إذا كان هذا الأمر مفهوما من طبيعة و خبث الاستعمار فكان على النظام الذى منحه شبه استقلال تصحيح المسار و استعادة البوصلة. و لا يعنى ذلك تجاهل أو إهمال البعد الإفريقي للدولة بل الاستفادة من الثراء الذى يمثله وجود هذين البعدين على أساس من العدل و الاحترام لهما جميعا.
ليست موريتانيا على كل حال بدعا من دول العالم التى بها شعب يتكون من أغلبية و من أقلية. و لا تعتبر صفة الأقلية منقصة و لا صفة الأكثرية امتيازا إلا بالنسبة إلى التقييم العددي. مع ذلك لا مناص من الخضوع للمعايير الكونية و إلى قوانين الديموقراطية التى تعطى للأكثرية حق قيادة الدولة و رسم هويتها من خلال جعل لغتها رسمية أي سارية المفعول على كل المواطنين بمن فيهم الأقلية، و حق التطلع إلى التعاون أو الاتحاد أو … إلى الاندماج حتى مع أي شعب ترى بينها و بينه من الوشائج و المقوّمات ما يبرر ذلك. لنتأمل دولا من محيطنا العربي و الافريقي المشابهة لنا و نقارن واقعنا و واقع هذه الدول: السودان، العراق، المغرب، الجزائر، السنغال و مالى المجاورتين.. بها كلها أقليات و تقودها أكثريات بل إن الأكثرية قد تكون أحيانا طاغية و متجبّرة على الأقلية، بينما الأكثرية عندنا لا تعامل على هذا الأساس، بصفتها أكثرية، و تواجه مؤامرة دائمة لتقزيمها !
من هنا نرى أن وضع موريتانيا الحديثة تعتريه اختلالات و ظواهر غير منطقية يمكن تلخيصها فى النقاط التالية:
ـ تدخل العامل الخارجي الدائم المتمثل فى النفوذ الفرنسي، خاصة على مستوى اللغة حيث أفرغت العربية من صفتها الرسمية و بقيت الفرنسية الغير دستورية و الأجنبية هي الفاعلة على المستويات كافة
ـ غياب أية علاقات تجارية مع الأقطار العربية عدا القليل مع المغرب المجاور، فى الوقت الذى ينحصر التبادل و العلاقات بشكل عام مع افريقيا الغربية و أوروبا مع تجاهل صريح فى هذا الميدان للدول العربية و كأنها ليست هي التى تضع بلدنا تحت حقن متواص بضخّ الرأساميل و الهبات المالية المستمرة منذ “الاستقلال”.. و كأن مصلحة هذا البلد الاقتصادية ليست أضمن عند ما نكون جزءا من الفضاء العربي الغني و الفسيح بدل التلذذ بالانغماس فى مربع الفقر و التخلف الافريقيين و التبعية الأوروبية المذلة
ـ انتماء موريتانيا إلى الجامعة العربية انتماء شكلي و التعامل معها شبه معدوم عكس الدينامية التى تطبع وجودها فى الاتحاد الافريقي
ـ الحرب الصامتة على الهوية العربية التى تخوضها الإدارة و الإعلام و النشاطات الحزبية المختلفة، إلى درجة أن كلمة عربي أصبحت لا تستعمل إلا نادرا و يلتفت إلى من ينطقها كأنها من المحرمات أو الغرائب و حلت محلها عند المتكلمين فى السياسة عبارات مثل “إفريقي”، “اسلاامي” الخ…
ـ الهجرة السرية و التجنس أصبح أمرهما من الروتين و لا يتحدث عنهما أحد، لا وسائل إعلام، لا أحزاب معارضة أو غير معارضة، لا منظمات حقوقية أو غير حكومية..
ـ إصرار الخطاب الرسمي و وسائل الإعلام على جعل شريحة الحراطين قومية لذاتها مختلفة و تكريس هذا المفهوم بترديد عبارات “البظان لكور لحراطين” بدل “البظان و لكور” فقط، إن كان لا بد من مثل هذه العبارات الموغلة فى السماجة.
و مثل هذا يطول بل لا يحصى…
***
موضوع مصادرة الهوية العربية لموريتانيا و كذلك وضع الأقلية الافريقية لا يستوفيهما مثل هذا البحث المتواضع. لكنني سألخص رؤيتي لمعالجة هذه المسألة كالآتي :
ـ حمل النظام أو ي نظام يأتى بعده على إعادة توجه الجمهورية الإسلامية الموريتانية طبقا للواقع المبيّن أعلاه كتسوية و جبر لظلم تاريخي حضاري و ثقافي عانى منه شعبها، و ذلك بإعادة موريتانيا إلى حضنها العربي من خلال تفعيل وجودها فى الجامعة العربية و هيئاتها و نسج علاقات متميّزة مع الأقطار العربية.
و على المستوى الداخلي:
ـ تفعيل رسمية اللغة العربية و الاعتناء بها لتحل محل الفرنسية و اعتبار الأخيرة لغة أجنبية كاللغات الأجنبية الأخرى.
ـ قطع الحبل السري مع فرنسا الاستعمارية و إعادة العلاقات معها على أساس المصلحة لا التبعية
***
و على مستوى المكوّنة الثانية أي الأقلية الزنجية المحترمة من شعبنا أدعو:
ـ للاعتناء بمطالبها الثقافية و المادية و المعنوية و أؤكد على وجه الخصوص على :
ـ وجوب تأهيل لغاتها و كتابتها و تعليمها، بالحرف العربي تفضيلا و حرصا على انتهاز أية وسيلة تعين على الاتحاد و البعد عن التبعية
ـ حقها فى التواصل الطبيعي من خلال الدولة بامتداداتها الاثنية والعشائرية فى الدول الأخرى.
***
إن الالتزام الوطني لهذه الفئة الكريمة يجعلها لا شك تعى ضرورة الوحدة و المحافظة عليها من جهة و ضرورة الحفاظ على البلد من غزو العناصر الأجنبية و وقوف الجميع فى وجه كل محاولة من ذلك النوع من جهة ثانية.
أما الشرائح المهمشة من الشعب التى حللنا واقعها فالتأكيد على مساندة نضالها المشروع مع المحافظة على الوحدة الوطنية و السعي إلى كل ما يعززها و الابتعاد عن كل ما يمكن أن يلحق بها ضررا أو تحريفا لمبادئها كالتطرف أو القبلية أو الجهوية أو العنصرية أو الارتباط بالجهات الخارجية المشبوهة.
هذا رأيي فى أي نقاش محتمل لقضية مصيرية لبلدنا الحبيب موريتانيا و لا أتعصّب له.. و من جاء بخير منه قبلته كما يقول بعض سلفنا الحكيم.
اقتراح عملي
سأصوغ هنا بعض المبادئ و الاجراآت التى أعتبر أنها إن حظيت باهتمام النخب الوطنية الواعية لخطر الوضع الراهن و ما قد يؤول إليه بلدنا من فتن و حرب أهلية قد يهوى بسببها فى قاع الدول الفاشلة التى نشاهد و نقرأ عنها كل يوم.. إن حظي إذن الإجراء المقترح بالاهتمام الذي يستحق سيتسنى لنا انتشال البلاد قبل أن ينالها هذا المصير الكاري.
و لأننا نفترض حسن الظن و الروح الوطنية لدى مختلف الفرقاء فى البلد فانا نقترح عليهم
اتخاذ مبادرة تاريخية تهدف لفتح حوار وطني بين المثقفين و السياسيين من المكونتين من شعبنا، العرب و الزنوج، و لا يكون هذا الحوار تحت أية رعاية رسمية أو حزبية، كأن تتخذ شخصيات مزكاة من مختلف الأوساط السياسية و الثقافية و الدينية للمكونتين مبادرة تشكيل لجنة عامة تعنى بوضع تصور أو خارطة طريق للمهمة و ما يتطلب ذلك من إمكانات لوجستية و غيرها. لينطلق الحوار بعد ذلك مؤطرا في ورشات و ندوات و مستخدما وسائل الإعلام المختلفة. و عليه، أي الحوار، أن يأخذ الوقت الكافي لبلورة الأفكار و الحلول و لو تطلب ذلك الشهور أو ربما أكثر شريطة أن يتسم المتحاورون بخصال أولها الاستعداد ثم الصدق و التجرد قدر الإمكان و الانفتاح و الروح الرياضية و الأخوية و طول النفس، و غير ذلك من سلوكيات حميدة و إجراآت تتطلبها مهمة خلاص شعب بأكمله و وطن تتهدده الأخطار من كل جانب.
هذه المبادئ و الأخلاق النبيلة يمكن للهيئة، بل يجب عليها تعميمها على الجماهير كجزء من مهمتها الرئيسية بواسطة إصدارا لبيانات و التوجيهات و النصائح فى الإعلام بجميع وسائطه، يوميا و بصفة موسمية، و الاستعانة فى ذلك بالعلماء و الأئمة و الأوساط المدرسية و الشبابية و النسوية و الحقوقية و المدنية الخ… هي إذن حملة تهذيبية دائمة تدعو و تحث على الأخوة فى الدين و الوطن و إلى وقف الشتم و التهجم المتبادل و تحرّم التعبيرات الفئوية و العنصرية و الاقصائية و تشجع على التواصل و الحوار الأخوي و الاختلاط فى جميع المظاهر الاجتماعية و الثقافية و الفنية الخ…
ليست التشكيلة، أو الهيئة، أو اللجنة المقترحة ـ تحدد تسميتها أثناء تشكيلها ـ ليست سلطة موازية و لا حزبا معارضا و لا مواليا و لا منظمة حقوقية أو خيرية.. إنما هي تجمع اختياري يتكون من شخصيات مصطفاة من الطيف الثقافي و السياسي و المدني من جميع أنحاء الوطن الموريتاني بريفه و حضره و من الجاليات الموريتانية فى الخارج تهدف إلى التعويض عن الزمن الضائع و إنقاذ البلاد و وحدتها بقفزة تاريخية المتشائمين تكذّب نبوءات المتشائمين و أصحاب الطوالع السيئة.
ما هو موقف السلطة القائمة المحتمل من هذه المبادرة؟ موقفها سيكون إما أن تتصرف كسلطة وطنية واعية، و هذا ما نرجوه، تهتم بمستقبل بلدها و شعبه و تعتبر هذه الهيئة أداة مساعدة لتوجهها الداعي إلى الوحدة الوطنية و السلم الاجتماعي فتمدها بما تحتاجه من الوسائل المادية و المعنوية للاضطلاع بمهمتها النبيلة.. أو تنظر إليها على ألأقل كمظهر من مظاهر الديموقراطية ملتزم بالقانون… أو إما أن تنظر إليها بعين الريبة أو كمنافس .. أو أن تتجاهلها و لا تفيدها و لا تستفيد منها كما هي الحال مع الأسف فى كثير من الحالات المماثلة.
مهما يكن موقف النظام الموريتاني الحالي من أول عمل تتجلى فيه كافة عناصر الجدية و الوطنية و الروح الوحدوية، و مهما اعتبره البعض ضربا من المثالية و القفز فوق الواقع بمظلة التنظير النخبوي، فليس هناك طريق آخر لإرساء وحدة وطنية حقيقية على أسس من العدالة و الإنصاف.