– أزمة المنظومة السياسية الموريتانية: قراءة سياسية ودستورية*
بقلم : إبراهيم ولد اتليميدي
لم يعد سرا حتى نبوح به أن نظامنا السياسي يعاني من اختلالات عميقة تستشري في مختلف زواياه المعتمة، ولقد بدا اليوم واضحا أكثر من أي وقت مضى أن العملية الجراحية التي خضع لها صبيحة الثالث من أغسطس 2005 لم يحالفها الحظ في النجاح مطلقا لأسباب جلية بتنا نعرفها جميعا فجاءت أشبه بمسكنات مؤقتة هدأت قليلا من روع نظامنا السياسي عوض أن تستأصل عنه مواطن الداء.
بالنسبة لي أعتبر أن البحث في أزمة المنظومة السياسية الموريتانية يستلزم العودة إلى نشأتها التي اصطحبت معها الكثير من التشوهات التي تعانأي منها هذه المنظومة السياسية والتي شكلت بالنسبة لها بذور التأزم والتوتر، وفي هذا المجال فإن هذه المنظومة تأسست بشكل تلقائي وعفوي في مجتمع أمي ومتخلف مما مكن النخبة أو الطبقة السياسية التي استلمت أمر هذا الكيان من المستعمر من أن تتحرك بحرية أثناء وضع اللبنات الأولى لهذه الدولة بعيدا عن رقابة المجتمع، وهو ماانعكس بشكل خطير على جميع مفاصل هذه المنظومة بدءا بالمؤسسات الدستورية والعلاقة فيما بينها مرورا بالأحزاب السياسية وآليات إنتاج النخبة السياسية، وبالتالي طريقة تدبير الشأن العام الوطني وهو ما أفضى إلى حالة عدم الإستقرار السياسي التي عشناها ولا زلنا نعيشها لحد الساعة.
إن أي حديث عن العيوب الدستورية في المنظومة السياسية الموريتانية لابد أن ينطلق من الحديث عن العوامل الجوهرية التي تساهم في شل وتعطيل فاعلية وديناميكية القواعد الدستورية والقانونية للبلد مهما كان حيز النجاعة في وضعيتها الحالية، والتي من أهمها ذلك الإنفصام بين منظومتين قانونيتين تحكمان البلد هما المنظومة التشريعية الإسلامية والعرفية، والمنظومة التشريعية الوضعية، وهو الانفصام النكد الذي أدى لنزع هالة القداسة والاحترام اللازمة عن جملة القوانين الناظمة للمنظومة السياسية وسمح للمواطن الموريتاني مهما كانت مكانته أن يحتال على جميع القوانين المنظمة للشؤون العامة بدعوى أنها بشرية المصدر وغربية الهوى.
هذه المفارقة الخطيرة المتجذرة في لاوعي الإنسان الموريتاني هي التي تفعل فعلها في هد أركان وأسس تدبير الشأن العام في البلد.
وإذا كانت أسباب هذه الظاهرة واضحة ويمكن تقبلها في فترة الإستعمار حيث كان كيان الدولة الناشئ والهزيل آنذاك يمثل المستعمر الغربي المسيحي وكان للمجتمع آنذاك نظمه وقوانينه التقليدية التي أنتجها من مصادر متعددة بعضها شرعي والآخر عرفي بدائي فإنه من غير المقبول ولا المستساغ بعد نيل الإستقلال أن تبقى هذه المفارقة حية في عقلنا الماورائي الجمعي.
ولعل السبب الذي تعود إليه قوة جذوة هذه المفارقة الخطيرة هو تلك الغربة التي يشعر بها الموريتاني إزاء المنظومة القانونية التي تحكم المجال السياسي في بلده،بمعنى أن ثمت إحساسا حادا يتملك الموريتاني
أيا كان
بأن تلك القوانين هي في مجملها ذات النصوص القانونية التي أنتجها المستعمر لتحكم منظومته السياسية وأن أذنابه في بلادنا لم يفعلوا سوى أنهم أخضعوها لترجمة حرفية مع تصرف طفيف في صياغتها.
وإذا كنا متفقين من حيث الناحية المبدئية على جواز الاستفادة من حضارة الآخر وأن ديننا الحاكم على جميع مناحي حياتنا – سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية – لم يلزمنا بصيغ وقوالب جامدة في ما يتعلق بإدارة منظومتنا السياسية انطلاقا من صلاحيته لكل زمان ومكان ومراعاته لتقلب الظروف والأحوال والبيئات التي من شأنها أن تفعل فعلها وتترك بصماتها الخاصة على أي منظومة سياسية، بل اكتفى عوض ذلك بوضع قواعد عامة ونصوص مجملة وجامعة في هذا المجال فإن كل هذه المبادئ والمنطلقات لا تنهض حجة مقنعة لتبرير استيراد نماذج الأنظمة السياسية وفق صيغ معلبة وجاهزة لتطبيقها بشكل حرفي على بيئات مغايرة لمنبتها الأصلي .
إن أول وأهم شرط لنجاح أي منظومة سياسية هو أن تكون بنتا شرعية للمجتمع الذي ستطبق فيه وأن تأتي كحصيلة لما يعتمل في ذلك المجتمع من فعل ثقافي(دين – حضارة) وفعل سياسي كألوان الطيف السياسي وطبيعة الصراع السياسي المحتدم فيما بينها.
إن سبب نجاح التجارب الغربية المختلفة في إدارة مجال الحكم والسلطة يعود بالمقام الأول إلى أنها جاءت كإفرازات لطبيعة ما يعتمل في مجتمعاتها من ثنائية الفعل الثقافي والسياسي وكردة فعل طبيعية على مجمل التحديات التي تعيشها مجتمعاتها وإلا فكيف نفسر اختلاف التجربة الإنجليزية مع الفرنسية مع الأمريكية مع أنها كلها تجارب ديمقراطية أصيلة.
بعد معالجة هذه الإشكالية المبدئية التي تقوم حجر عثرة أمام نجاعة أي إصلاح للمنظومة السياسية الوطنية بواجهاتها المختلفة نلج الآن للحديث عن مظاهر التأزم الجوهرية في هذه المنظومة.
ففيما يتعلق بالنظام الدستوري الموريتاني فمن الواضح أنه يعاني من اختلالات عميقة تعيقه عن الإستجابة لمختلف التحديات التي يفرزها المشهد السياسي الوطني خصوصا في ما يتعلق بالعلاقة بين السلط الدستورية وطبيعة التوازنات التي ينبغي أن تحكم تلك العلاقة، وهو أمر يعود إلى طبيعة نظامنا الدستوري القائم على هيمنة مطلقة لمؤسسة الرئاسة مقابل هشاشة موقع كل من مؤسسة الحكومة والبرلمان داخل الخريطة الدستورية وغياب آليات رادعة من شأنها تفعيل ميكانيزمات المسؤولية السياسية .
من هنا يرمي هذا المقال إلى الدعوة صراحة إلى إجراء تعديل دستوري – بعد التوصل إلى حل دستوري إجماعي للأزمة الحالية – ينص صراحة على انبثاق الحكومة من البرلمان وعلى مسؤوليتها الثنائية أمام كل من الرئيس والبرلمان وعلى تخفيف عقلنة النصوص الدستورية المتعلقة بمزاولة البرلمان لصلاحياته واختصاصاته الدستورية تشريعية كانت أو رقابية عبر توسيع مجال القانون المنصوص عليه في المادة 57 ومنح حرية أكبر للبرلمان في مزاولة حق تعديل النصوص التشريعة المقدمة للتصويت، وكذلك تخفيف القيود الواردة على وظائفه الرقابية كسحب الثقة وملتمس الرقابة.
وعلى هذا التعديل الدستوري أن يحسم الخلاف في مسألة أخرى باتت جوهرية وتفرض نفسها على الجميع ولم يعد التغاضي عنها ممكنا بحال من الأحوال ألا وهي موقع المؤسسة العسكرية في المنظومة السياسية الموريتانية وطبيعة الأدوار الملقاة على عاتقها في إطار هذه المنظومة، بمعنى آخر هل سيتم تشكيل مجلس قومي عسكري أعلى يقوم بدور الحارس للديمقراطية الوليدة أم أنه سيتم إخراج المؤسسة العسكرية من اللعبة السياسية خصوصا وأن لكل من هذين الطرحين دعاته وخصومه في الساحة السياسية الوطنية.
بقي لنا أن نتحدث عن وجه آخر من أوجه المأزق الذي تعانيه منظومتنا السياسية أقصد أزمة الطبقة السياسية الوطنية الفاسدة في مجملها والمسؤولة عن ما يعانيه البلد من عجز سياسي واقتصادي واجتماعي والتي عجزت رغم عمرها الطويل عن إنجاز أي دوران حقيقي في بنيتها العتيقة.
وبدهي أن الطبقة السياسية الموريتانية الحالية تصدر أساسا من منبعين أساسيين هما النخبة الفرانكفونية التي تسلمت زمام البلد من المستعمر غداة رحيله الطوعي من البلد والتي لا تزال تصر على التواجد الفاعل في المشهد السياسي الوطني رغم شيخوختها السياسية فضلا عن الفيزيولوجية، ونخبة الحركات الأيديولوجية التي ظهرت كردة فعل على انغلاق هذه النخبة وعجزها عن الانفتاح والتجدد والتي مالبثت أن أصيبت بنفس الداء حيث لا زال زمام الكثير من هذه الحركات و الأحزاب في يد جيل تأسيسها.
وبدهي أن جمود هذه الطبقة السياسية وفشلها في التجدد والانفتاح يعود بالأساس إلى ظروف نشأتها وتشكلها وكذلك إلى نمط وآليات اشتغالها التقليدية والقائمة على احتكار السلطة وعلى مزاولة التسلطية السياسية والاجتماعية المرتكزة على مفاهيم الأبوية السياسية والولاء السياسي وعلاقات التابع بالمتبوع والراعي بالرعية.
وفي ظل هذه الأجواء المشحونة لا يمكن التنبؤ بوقوع أي دوران لهذه الطبقة السياسية إلا بوسائل همجية كالانقلاب العسكري أو طبيعية كموت الزعيم أو مرضه المزمن وعجزه عن أداء وظائف جسمه الفيزيولوجية، أو عن طريق الآليات التقليدية لإنتاج النخبة السياسية كالولاء الأعمى والمقاولة السياسية والمصاهرة السياسية والوراثة السياسية.
إن أي حل لأزمة المنظومة السياسية الموريتانية لابد أن يأخذ في الحسبان وضع آليات وطرق ديمقراطية لتجديد الطبقة السياسية الوطنية وهو أمر لا يمكن تحقيقه دون البدء بإصلاح وتخليق الحياة الحزبية ومعالجة أمراضها الخطيرة والتي تعود إلى جملة عوامل بعضها قانوني وبعضها ذاتي يعود إلى طريقة اشتغال هذه الأحزاب، وفي هذا المجال فإننا نرى ضرورة القيام بسن قانون جديد للأحزاب السياسية يتماشى مع حاجيات المرحلة ويتجاوز جملة النواقص والعيوب الموجودة في النص الحالي وليس مجرد الاكتفاء بتعديل القانون الحالي الذي لا يجدي معه التعديل نفعا لأنه صيغ في ظل فترة قد تجاوزها الزمن وبعقلية تحكم فيها الأمني أكثر من السياسي وسادت فيها لغة المنع على لغة المنح.
*إبراهيم ولد اتليميدي- باحث في مجال العلوم السياسية