مقالات

ليبيا و “السيناريو الموريتاني” خيبة مسار

أنباء انفو – زرت موريتانيا عام 2008 للمشاركة في أول مهرجان دولي للشعر يقام بها، كانت في تلك الفترة تحت حكم قائد كتيبة الحرس السياسي السابق ، الجنرال محمد ولد عبد العزيز، الذي انقلب على الرئيس المدني المنتخب، سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، وكان أول ما تبادر إلى ذهني تعليقا على ما حدث في موريتانيا التي أصبحت لفترة وجيزة قدوة إصلاحية في المنطقة، مقولة (يا فرحة ما تمت) كأصدق تعبير عن انتكاسة هذه التجربة، فلم يكد يمر عام على أول تجربة ديمقراطية تنعم بها في تاريخها الحديث، إلا وداهمتها مجددا الانقلابات العسكرية، حيث فوجئ العرب والعالم في 6 أغسطس 2008 بأنباء الإطاحة بنظام الرئيس المنتخب.

كنت أتسكع في شوارع نواكشوط المتهالكة وأتأمل بعضا من كوميديا هذه التجربة، حيث لفت نظري في شوارع العاصمة غير المرصوفة لافتات قديمة للدعاية الحزبية الانتخابية تتخللها لافتات صغيرة مكتوب عليها (ممنوع البول هنا)، حيث العاصمة القدوة للديمقراطية العربية لا توجد بها حتى ذلك الوقت دورات مياه عامة، والملفت أن هذه اللافتات كانت هي الوحيدة المكتوبة باللغة العربية فقط، أما الباقي فمكتوبة بالعربية والفرنسية.

ومن خلال جسي لرأي الشارع الموريتاني اكتشفت ارتياحا عاماً لهذا الانقلاب وازدراءً للتجربة الديمقراطية برمتها. فماذا كان السبب يا ترى  ؟ 

يبرر المتحدث باسم النواب المستقيلين، وقتها، سيدي محمد ولد محمد، تلك الخطوة الانقلابية “بكون العملية الديمقراطية انحرفت عن مسارها الطبيعي وتحولت إلى وسيلة لاختلاس الأموال العامة وانحرفت عن أهدافها في التنمية والبناء” مشيرا إلى أن البلد يعيش حالة من الفساد وسوء التسيير لا نظير لها، حيث استحكمت في كل مفاصل الدولة في غياب إجراءات الرقابة على المال العام وانعدام خطة وطنية لمكافحة الرشوة، في حين ظلت الحكومة عاجزة عن مواجهة كل هذه المشاكل، كما باءت الإجراءات الخجولة التي قامت بها بالفشل .

لقد كانت الأمال والطموحات كبيرة تجاه نجاح تجربة موريتانيا وإمكانية تكرارها في الدول العربية، إلا أن الرئيس أخطأ عندما سارع فور تسلمه منصبه الرئاسي في إبريل 2007 إلى تشكيل حكومة محاصصة، غير متجانسة، وغير مؤهلة، اعتمدت في الغالب على التحالفات القبلية والسياسية، ولذا فشلت في تحقيق المأمول منها وخاصة ما يتعلق بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، ووجهت لها انتقادات كثيرة بشأن تعاملها مع تدهور مستوى المعيشة وارتفاع أسعار الغذاء بشكل غير مسبوق.

رغم الاختلاف بين ما حدث في موريتانيا من إصلاحات سياسية نابعة من النظام نفسه، وبين ما حدث في ليبيا من إزاحة للنظام بقوة السلاح وبتدخل أطراف دولية وإقليمية، إلا أن ثمة تشابها في البنية الاجتماعية والسياسية، وفي طبيعة المسار الديمقراطي، وفي مدى قابلية القاعدة الشعبية والنخب السياسية الضعيفة لهذا التحول ، ما جعل المآل واحدا، وهو ازدراء التحول الديمقراطي، والارتياح الذي سنلمسه أيضاً في الشارع الليبي لو حدث انقلاب عسكري يؤمن الناس، ويحاصر الفساد، ويأتي برجال دولة أقوياء كبديل للإفرازات الديمقراطية البائسة التي شوهت المسار الديمقراطي، بل جعلت الشعب يكفر فعلا بالديمقراطية وبالأحزاب وبصناديق الاقتراع التي أوصلت ثلة من الانتهازيين والفاسدين للتحكم في مصيره .

أذكر أني قرأت في نهاية العشرية الأولى مقالا للكاتب فضيل الأمين* ، بمدونة سريب لصاحبها احمد الفيتوري يطالب فيه بإرساء دولة إكراه في ليبيا، ولاقى ذلك المقال جدلا واسعا بين المثقفين الليبيين، بين من يرى أن ما يحدث في ليبيا آنذاك هو دولة إكراه فعلا، وبين من يرى أن ليبيا لا تعيش حالة الدولة بمعناها المؤسسي ما يجعلها على حافة الانهيار، وأن أية مطالب إصلاحية لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل دولة، وبين من يرى أن مطالب النخبة يجب أن تتجاوز هذه التسميات  إلى دولة الحريات الديمقراطية الحديثة، لكن واقعية فضيل الأمين كانت تعترف أولا أن ليبيا لا توجد فيها دولة بالمعنى الحقيقي، وأن أول الخطوات نحو المطالبة بالإصلاح لابد أن تتم بعد أن تُرسَى دولة الإكراه التي تعيد الاعتبار للقانون ومؤسساته. وما حدث بعد سقوط النظام يؤكد صواب هذه الرؤية ، فتسابق الجميع على الاستعراض الأجوف في تقليد مظاهر الديمقراطية، ومن ثم تقاسم السلطة في مجتمع لا توجد فيه دولة أو سلطة بالمعنى السياسي، أدى إلى ما نشهده الآن من فوضى وفساد وصراع وحروب جهوية وأيديولوجية نتيجة لهذا الخلل الكبير الذي وضع العربة أمام الحصان حين حدث لنا وسواس اسمه الانتخابات، وقذفنا بالكثير من المصطلحات الحديثة؛ التي وصلت لها المجتمعات بعد قرون من الصراع، في فراغ سياسي واقتصادي واجتماعي سميناه دولة ليبيا تعسفا . 

وبالمثل كانت دول مثل مصر وتونس ينطبق عليها وصف دول الإكراه ، ودول أخرى نجت من ظاهرة الثورات العربية؛ مثل الجزائر والممالك والسلطانات والإمارات، ينطبق عليها بشكل أو آخر وصف دولة الإكراه، تلك التي تتركز فيها السلطة في يد حزب واحد أو ملك أو سلطان أو أمير دون أن تشكل هذه السلطة نوعا من الدكتاتورية التي تفرغ الدولة من المؤسسات وتحيلها إلى منظومة أمنية ونظام حكم شمولي .

شكلت عملية الإصلاح السياسي في موريتانيا محاولة لخروج النظام من أزمته المركبة، أزمة شرعية، أزمة هوية، أزمة اندماج وطني، لا بل تصل أزمته لتطال كل أزمات التنمية السياسية التي يمكن أن تعانيها دولة، يضاف إلى ذلك مساهمة الضغوط الخارجية، أمريكا وإسرائيل خصوصا، وبروز التيارات الإسلامية المتشددة في إجهاض هذه التجربة الناشئة، ويبدو أن السيناريو الذي ينتظر ليبيا ليس بعيداً عن السيناريو الموريتاني، خصوصا وأن ليبيا تعاني الآن أزمة هوية وشرعية واندماج وطني، وتدخل خارجي وبروز التيارات المتشددة المضادة عقائديا لفكرة الديمقراطية في ظل ما يسمى بالإسلام المعتدل الذي سعى لتخريب التجربة من داخلها، كما يبدو في الأفق أن دولة الإكراه بأي شكل من الأشكال قادمة مع تأييد شعبي كبير ، أما المسار الديمقراطي ولافتاته سيعود من جديد ، مدعوما بضغوط تقليدية من قوى دولية ومنظمات عالمية، إلى حيز مطالب النخبة السياسية والثقافية ومؤسسات المجتمع المدني التي حدث لها تغيير حقيقي بعد هذه التجربة المريرة التي لا يحسب لها سوى خروج الشعب من قمقمه العتيق، وترتيب أولوياته التي تتطلبها عملية الإصلاحات السياسية.  

ويبدو أن ما حصل في موريتانيا وليبيا يشبه إخراج فراشة من اليرقة قبل نضجها، ما يؤدي بها إلى الموت فورا أو الحياة كحشرة زاحفة دون أجنحة. 

*تطرقت لمقالة الكاتب فضيل الأمين اعتمادا على ذاكرتي حيث أني لم أجد أثرا لهذه المقالة في شبكة الانترنت .

– سالم العوكلي

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button