– عام ” الركعتين “
بقلم : محمد الأمين بن الفاظل
عام بعد عام وفاجعة بعد فاجعة وذل بعد ذل وهوان بعد هوان وبحور من دم تُنسي أنهارا من دم ، ودول عربية وإسلامية ” تحررها ” أمريكا دولة بعد دولة ، ودول عربية وإسلامية أخري لا يملك قادتها لتفادي ” التحرير” الأمريكي سوي الانحناء صباحا ومساء لأجبن طاغيتين عرفهما العالم (بوش وألمرت ) أو الركوع ليلا ونهارا لأوقح وزيرتين عرفتهما البشرية (كوندلزا رايس وتسيبي ليفني ) .
عام بعد عام والحال كما هو فأينما وليت وجهك فلن تري في هذه الأمة إلا جراحا تنزف أو عيونا تدمع أو صدورا تئن بسبب بطش” الطاغيتين ” أما في الأماكن التي لا تنزف فيها الجراح ولا تدمع فيها العيون ولا تئن فيها الصدور فذلك يعني قطعا أن قلوب “القادة ” هناك تخشع وألسنتهم تتضرع وجباههم تركع لأجبن ” طاغيتين ” وأوقح ” وزيرتين ” عرفتهما البشرية في تاريخها الحديث .
عام جديد نستقبله بالدموع والدم بعد عام ودعناه بالدموع والدم وهو عام وإن كان لا يختلف في مجمل أيامه عن الأعوام التي سبقته إلا أنه مع ذلك حمل إلينا العديد من الإشارات والمشاهد التي جعلتنا نؤمن يقينا بأن أمة الجراح ستخرج قريبا من تحت أكوام الركام لتستقبل النصر الإلهي الموعود والذي يكاد يطرق الأبواب .
فأن يُزََفََّّ لنا في أول أيام العام الجديد خبر استشهاد القائد البطل ” نزار ريان ” بعد أن ترك الأمانة في يد علماء الأمة وشعوبها من خلال وصيته الخالدة التي أطلقها عاليا في الساعات الأخيرة من العام الماضي والتي كانت هي الساعات الأخيرة من حياته فهذا يعني الكثير والكثير .
وأن نشاهد أحد بسطاء الأمة يغادرنا إلي الجنة ـ إن شاء الله ـ وسبابته تُسبح ولسانه ينطق بالشهادة فهذا يعني الكثير والكثير ، وأن نسمع الآذان يرفع من تحت أنقاض مسجد مدمر وأن نشاهد المصلين يتحدون جرائم العدو ويصلون جماعة في العراء فهذا يعني الكثير والكثير .
وعامنا هذا يختلف عن السنيين العجاف التي سبقته في كونه شهد ” ركعتين ” أعتقد أنهما ستؤرخان لعهد جديد ولتاريخ جديد من الشموخ والكبرياء والعز يصنعه البسطاء والمستضعفون من هذه الأمة التي أصبحت جراحها تذرف أنينا بعد نفاد دمها وأصبحت عيونها تنزف دما بعد نفاد دمعها .
ولو أن ما في عامنا هذا من أحزان وأتراح ـ وما أكثره ـ وُضِِعَ في كفة ميزان ووضعت “الركعتان ” في كفة أخري لرجحت كفة ” الركعتين ” كثيرا .
فنحن لم يكن فينا من كان يحلم أنه في نهاية عامنا هذا سيشاهد المجرم السفاح ” بوش” في آخر مأموريته المشؤومة وفي آخر ظهور له في دولة عربية ينحني تحت حذاء مواطن عراقي بسيط لم نكن نعرف عنه شيئا مذكورا قبل أن نشاهد حذاءه يرفرف فوق العلم الأمريكي بعد أن أجبر “الغطرسة الأمريكية ” أن تركع تحت الطاولة في مشهد أكثر من رائع .
ونحن لم يكن فينا من كان يحلم أنه ـ بعد ثلاثة أيام من أحداث غزة الأليمةـ سيشاهد أكثر الصهاينة تطرفا وهو يركع وينبطح تحت سيارة خوفا من صاروخ أطلقه أحد البسطاء من غزة لا نعرف عنه شيئا كثيرا وقد يغادر دنيانا دون أن نعرف عنه شيئا مذكورا مع أن مقامه عند رب العالمين قد يكون أعلي بكثير من مقام كبار “العقلاء ” و كبار ” الحكماء ” وكبار ” المعتدلين ” في أمتنا العربية والإسلامية.
“ركعتان ” سيكون لهما ما بعدهما وإن كان يكفيهما أنهما أنستانا ما قبلهما من أحزان ولو للحظات معدودة ، مشاهد قصيرة تناقلتها الفضائيات والمواقع والجرائد والهواتف أدخلت الفرحة في كل بيت لم تنقل له الفضائيات خلال العام كله إلا مشاهد الذل والهوان والخراب .
لحظات قصيرة من الفرح العارم لَفََّتْ بسطاء هذه الأمة في القري والمدن وأغضبت ـ في الوقت نفسه ـ المعتدلين من هذه الأمة .
يقول المعتدلون في عالمنا العربي ـ وما أكثرهم ـ بأن هذه التصرفات الطائشة والصبيانية والعبثية لن تحقق نصرا بل أنها ستزيد من هزائمنا وستقلل من التعاطف العالمي مع قضايانا العادلة .
ويقول المعتدلون ـ وهم العبثيون حقا ـ بأن هذه الصواريخ العبثية لا تجدي شيئا سوي أنها تعطي للعدو ذريعة لوقف الهدنة ولوقف التفاوض ولجلب المزيد من الدمار والخراب.
ويقول المعتدلون ـ وما أسخف قولهم ـ إن التفاوض يكاد يقترب ومنذ عشرات السنين من تحقيق ” شيء ما ” وأن هذه التصرفات العبثية التي تأتي من هنا وهناك هي التي تؤثر سلبا علي مسيرة هذا التفاوض .
يقول المعتدلون كلاما كثيرا بلا أول ولا آخر لعل من أصدقه ما قاله أمين عام جامعة الدول المعتدلة والذي قال بالعربي الفصيح والصريح : “المستوطنات في الضفة تلتهم الأرض والقذائف في غزة تلتهم الحياة والمفاوضات تلتهم الوقت ”
فأي أهمية للتفاوض الذي يلتهم الوقت والذي يتنازل مع كل ” طبعة جديدة ” عن جزء من الحد الأدنى الذي أقرته الشرعية الدولية ؟
وأي أهمية لتفاوض يتحدث فيه العدو بصوت السلاح الذي يعلو يوما بعد يوم ويتحدث فيه المعتدلون بالأنين الذي يضعف يوما بعد يوم ؟
وماذا يجدي الأنين في عالم “إنساني جدا ” ترفض بعض دوله “الإنسانية جدا ” نقل المشاهد المؤلمة في غزة عبر وسائل إعلامها لأسباب إنسانية وهي التي تشجع وتشارك ـ ولأسباب إنسانية أيضا ـ في صنع هذه المشاهد الفظيعة ؟
ثم إذا كانت هذه الصواريخ عبثية فما هو البديل ؟ فمعبر رفح الذي يمكن أن يهرب منه السلاح مغلق والسلاح الذي يمكن أن يتم تهريبه مكدس ومحروس في مخازن الجيوش العربية التي لا تفتح إلا إذا كانت هناك مظاهرات ستقمع أو دول ” شقيقة ” ستحتل ؟
المقاومة ـ يا معتدلين ـ حق طبيعي وإنساني وديني وحتى بيولوجي فالجسم عندما تغزوه جرثومة يبدأ تلقائيا بالدفاع بما هو متاح لمواجهة هذه الجرثومة الدخيلة .
والمقاومة الموعودة بالنصر دينيا وتاريخيا هي المقاومة التي تدافع عن حق وهي المقاومة التي تُعِدُّ ما استطاعت من قوة حتى ولو كانت تلك القوة مجرد حجارة أو صاروخ مصنع محليا وبوسائل تقليدية كما يحدث في فلسطين أو كانت مجرد بندقية صيد أو حذاء كما حدث في العراق .
المهم أن نقتل منهم كما يقتلون منا حتى ولو كانت الفوارق كبيرة ، والمهم أن نجبرهم علي الهروب إلي الملاجئ وأن نخيف أطفالهم كما يخيفون أطفالنا وأن نوقف بعض مؤسسات تعليمهم كما يوقفون مؤسساتنا التعليمية ، والمهم ـ وهذا مهم جدا ـ أن نجبر قادتهم للركوع تحت أحذيتنا أو صواريخنا “العبثية ” كما يجبرون هم ” زعماءنا ” للركوع تحت أحذيتهم وأقدامهم القذرة .
سينتصر بإذن الله المقاومون في غزة بصواريخهم “العبثية ” كما انتصر المقاومون في جنوب لبنان في ” مغامرتهم غير المحسوبة ” كما سماها حينذاك أكثر المعتدلين اعتدالا.
وستنجب غزة ـ كما فعلت من قبل ـ أبطالا من بسطائها قد لا نعرف عنهم الكثير إلا بعد استشهادهم كما حدث في جنوب لبنان مع “عماد مغنية ” الذي فرحنا باستشهاده بقدر حزننا علي فقدانه فعندما تكون الشهادة هي السبيل الوحيد لأن يتعرف الناس علي أبطالهم الحقيقيين الذين يولدون بصمت ويحققون المعجزات بصمت فهذا يعني أننا أمة لها موعد قريب وقريب جدا مع النصر .
سننتصر في غزة كما انتصرنا في جنوب لبنان وسيكون مصير المعتدلين في فلسطين كمصيرهم في لبنان وسيعلم هؤلاء المعتدلون بأن المغامر حقا هو الذي يضع مصيره في كف شيطان أمريكي أو إسرائيلي .
المواجهة اليوم ـ بالمختصر المفيد ـ هي مواجهة بين مشروع المقاومة والممانعة الذي تمثله شعوب الأمة وخاصة بسطاءها وبين مشروع الاعتدال الذي يقوده جبناء الأمة الذين هم للأسف ” قادتها ” مع اعتذاري لهؤلاء “القادة ” الذين لا يجوز التحدث عنهم بسوء لأنهم أموات ونحن أمة لا تتحدث عن أمواتها بسوء .
وأسلحة المواجهة بالنسبة للفريق المقاوم يجب أن تشمل كل ما هو متاح : صواريخ عبثية ، حذاء ، مسيرة ، مظاهرة ، كلمة ،دعاء ، تبرع بمال أو بدم ، صبر ، إرادة ، طول نفس ……
المهم أن يبحث كل واحد منا عن شيء يفعله وأن يشارك كل واحد منا في صناعة النصر القادم ، فلا يعقل ـ إطلاقا ـ أن نترك أهلنا في غزة لوحدهم في الميدان .
صحيح أن الشعوب العربية لم تكن غائبة خلال هذه المواجهة لكنه صحيح أيضا أنه لم يزل هناك الكثير الذي يمكن أن تفعله هذه الشعوب .
فليس من اللائق أن نطلب من أهل غزة مزيدا من الصبر في مواجهة آلة الدمار الصهيوني في الوقت الذي نعجز فيه نحن عن الصمود أمام مسيلات الدموع والْعِصِي و عن مواجهة أنظمة نتفق جميعا علي عجزها .
علينا أن نُكثف من المسيرات والمظاهرات والاعتصامات ويمكن لنا هنا أن نتعلم من اعتصامات المعارضة اللبنانية في مواجهتنا السلمية للحكام كما تعلمنا من انتصارات حزب الله في مواجهتنا العسكرية للعدو .
وعلينا أن نعلم أن التاريخ يصنعه البسطاء بمواقفهم وأفعالهم ” العبثية ” حتى ولو كان يكتبه غيرهم ، فالذي أوصل ساكنا أسودا للبيت الأبيض ـ وهو ساكن نرجوا أن يتذكر دوما أن لنا أحذية بكل المقاسات ـ هم الأمريكيون البسطاء الذين كانت من بينهم سيدة سوداء رفضت أن تترك مكانها في القطار كما كان يفعل السود دائما عند حضور البيض ولقد صرخت يومها بعبارتها “العبثية ” المشهورة : ” لن أترك مكاني لقد سئمت كل هذا ” وفي ألمانيا كانت ربات أسر عاديات يخرجن من تحت الركام الذي خلفته الحرب العالمية الثانية ليبشرن من يقابلهن بأن ألمانيا ستنهض من جديد ، وفي الهند أسست مجموعة من الأطفال أصغر جيش مخابرات عرفه العالم حيث كانت مجموعة من الأطفال تتظاهر باللعب قرب الجيش الإنجليزي وذلك لجمع معلومات دون أن يشعر الجيش بذلك ، وفي اليابان قرر ياباني عادي أن يصنع أول محرك ياباني وهو ما تم فعلا بعد العديد من النكسات ، وفي بنجلادش تذكرني قصة الاقتصادي المشهور “محمد يونس ” في بعض أوجهها بقصة الصحفي ” منتظر الزيدي ” فكلا البطلين كان يحمل هَمَّ بلده وكلاهما لم يستطع أن يتصرف وفق ما تمليه وظيفته عندما كان الموت يفتك بالناس من حوله وكلاهما أبدع في ردة فعله .
فما الذي يمكن أن يفعله عراقي شريف وجد نفسه وجها لوجه مع سفاح قتل ما يزيد علي المليون من العراقيين بسبب معلومة كاذبة قدمتها له المخابرات الأمريكية التي لم تصدق يوما اعتمادا علي معلومات كاذبة قدمتها لها المعارضة العراقية التي هي ليست أقل كذبا ووقاحة من المخابرات الأمريكية ؟
منتظر قدم جوابه الجريء والصريح علي السؤال الذي يجب أن يبقي مطروحا علي كل فرد من أمتنا العربية والإسلامية ولكن بصيغة أوسع وأشمل .
هذه ليست دعوة للعنف ولا حتى لاستخدام ” لغة الأحذية ” وإنما هي دعوة لأن يحمل كل واحد منا هَمَّ هذه الأمة وأن يقدم فعلا أو موقفا “عبثيا ما ” ويبدع في تقديمه حسب قدراته للمشاركة في صناعة النصر القادم الذي لا بد أن يساهم فيه كل البسطاء والمستضعفين من هذه الأمة .
محمد الأمين بن الفاظل
رئيس مركز ” الخطوة الأولي ” للتنمية الذاتية
هاتف 2226821727
www.autodev.org