موريتانيا المأزومة: بعض عناصر المسألة
يحتاج المتابع الفطن لكبير جهد ليلحظ مدى الضبابية والحيرة والتخبط التي تعمر مناحي التفكير والحكم والمراجعة لدى المتعلمين الموريتانيين حول واقعهم المعيش وحول أصل الأزمة في دولتهم ومجتمعهم، لقد بلغ اليأس بأحدهم إلى أن اتهم أهل البلاد بالعجز عن بناء كيان يعيشون فيه، وذهب آخر إلى أن ‘الاستقلال’ كان خطأ، وجادل آخرون بحقيقة وجود كيان قائم بذاته يسمى ‘موريتانيا’، وأجهد البعض من ‘المختصين’ عقله في اكتشاف أصل العلة ووجده في الجينات الغريبة التي تمنع أهل البلاد من التفكير السليم والخضوع للنظام وبالغ آخرون في ‘جلد الذات’ فاتهموا بني جلدتهم جميعا بكل الأوصاف المنحطة. وبطبيعة الحال لا أحد بمكنته تقديم ‘فهم سحري’ لأصل الأزمة الموريتانية، لأسباب منهجية إجرائية ولعوائق عملية ذاتية. كما أن الفهم المتسرع والعاطفي وتنكب وجهة البحث وتوظيف أدوات المراجعة المعتمدة لدى الآخرين في العالم،كل ذلك يجعل المتشائم والمتفائل والمتشائل أيضا، في حيرة.
ونحن هنا لا نريد تقديم مثل ذلك الفهم السحري ـ وهل نستطيع؟ ـ بل قصارى ما نرمي إليه التذكير ببعض عناصر المسألة ـ الأزمة والتنبيه على بعض المحددات السيسيو ـ تاريخية والمجتمعية التي قد تصلح عناصر قابلة للاستثمار في نموذج تفسيري، يستخدم العناصر الأكثر تفسيرية، ولا نقول الأكثر صحة، في تحليل الأزمة وتفكيك عناصرها.
فمن الوجهة المنهجية الأولية يجب عدم الخلط بين عناصر متباينة ولو كانت تترابط بحكم منطق التعالق بين الأمور في حياة البشر، كي نستطيع أن نحدد أين نحن في جمع العناصر والمعطيات، ويجيب التمييز بين العنصر التراكمي والعامل الظرفي، وبين التأثير المجتمعي والثقافي (العناصر الداخلية) والفاعل السياسي والأيديولوجي (العناصر الخارجية). وتبقى طريقة التعاطي مع اللغة وإنتاج الخطاب، اكد معطيات التحليل والتخطيط والمراجعة والمقاربة.
فمن العوائق البارزة الخطاب الموريتاني، أي الرؤية التي ينتجها تفكير الموريتانيين حول مجمل حياتهم بمناحيها المختلفة، لاسيما السياسي والمجتمعي على نحو خاص، وليس سرا أن السياسة في هذا البلد صارت مجالا مفتوحا للجميع، لأن الحقل السياسي ليس مستقلا ومميزا من خلال اللغة التي تنتج الخطاب، ولذلك فالمبتذل اللفظي والكلام السوقي والمراجــــعة المباشرة للظرفي والمعيش، تنتج امحاء المعنى وفراغه وتهافت المبنى وتدهور البناء البلاغي للعبارة، ولذلك لايجد أي من الشّداة والقصّر وحتى من العامة، ولو كان شيخا كبيرا، حياءا من دخول ‘السياسة’ فهي مشاع لا سور له، لأن اللغة السياسية ليس بها من التعقيد المعرفي والتراكمي ما يحميها من المتطفلين، ومن هنا كان كل حقل سواء في السياسي أو المعرفي، هو لغة، أولا وأخيرا، يحميه التقليد الخطابي المعقد والخاص لمنتجيه ومستهلكيه، ويتفكك ذلك الحمى ويُستباح كلما كان مشاعا أو مفتوحا. لقد سمى تلك الظاهرة أحدهم ذات يوم بما معناه ‘إنفجار الطموحات’ وبغض النظر عن كونه يقصد فوضى المشاركة السياسية، فإنه كان على حق حين نصرف كلامه إلى أن موريتانيا هي البلد الوحيد، على حد العلم، الذي يعتقد فيه كل فرد أنه مساو لأي فرد آخر مهما كانت درجة الاختلاف بينهما في الخبرة أو المعرفة أو حتى في الخُلُق.
وتزداد تلك الظاهرة في الحقل المعرفي، حيث يعتقد الكثيرون أنه يكفي الحديث وبطريقة عفوية أو حتى مبتذلة عن أي موضوع أو ظاهرة ، ليتم الوصول إلى كنهها أو جوهرها.
ربما يكون للثقافة الشفوية وأساليب التفكير النمطي تأثير على عقلية التنظيم والتدقيق والمنهجية والحد منها، وقد يكون للعزلة قرونا في الصحراء فعلها، ويبقى تأثير عصر الأجنبي، أبرز الشروط التاريخية التي أنتجت خطاب الأزمة ونتائجه المؤسسية والفردية. لقد برهن انقلاب 87 وانقلاب 2003 وما قبلهما وما بعدهما من انقلابات، على أن جوهر الأزمة يكمن في الدولة الوطنية، وفي رأس هرمها السلطوي، وليس بين أهل البلد أنفسهم، مهما كانت طبيعة المشاكل والحساسيات القائمة بين مكونات الشعب. فجميع الانقلابيين، عربا أو زنوجا، لم يتجهوا إلى المجتمع لتفجيره أو تصفيته، بل كان همهم الوحيد الإمساك برأس الهرم، قناعة بدور السلطة في مجتمعات الجنوب الفقيرة، واقتناعا، ولو بدون وعي، بأن الخصم هو أدوات القمع والسيطرة والجمود والفساد الماثلة في الإدارة المؤممة، والتي تركها الاستعمار وسيّرها المواطنون، لا للبناء عليها والقطيعة معها بل كان النموذج والتميز في القياس عليها والاتباع لنهجها واستنساخها إن أمكن! فالخبرة التاريخية تدل على أنه لم يحدث أبدا أن جرى اصطفاف عرقي بين العرب والأفارقة ‘الزنوج’ في الحروب التي جرت في الصحراء الكبرى وبلاد السودان، بل إن أشد تلك الحروب شراسة كان مثلا الحرب بين التيجانية العمرية والقادرية البكائية، وقد قاتل مع كل طرف رجاله من العرب والفولبى وغيرهم.
ولكن الاستعمار الفرنسي، الذي شكل بداية التحديث القسري والفوقي أنتج منظومة كسيحة ومستلبة هي إدارته ونظامه المركزي والإداري الذي حمل معه كل خصائص وسلبيات ‘الدولة اليعقوبية’ ونزعتها التسلطية والمركزية والدولوية وطابعها العنيف والمقيت والصارم ونزوعها الدائم إلى الضبط والوقع والتثبيت وما إليها من صيغ الرقابة المركزية والتحكم من خلال بؤرة اشعاعية ونوعية باردة وجامدة. وقد أوْرث الاستعمار الدولة الوطنية تركة ثقيلة منها تلك المنظومة القمعية والتسلطية والاستعلائية للإدارة الكولونيالية، وهو ما يتجلى دواما في طريقة تعامل الإدارة الاقليمية بوزارة الداخلية مع المجموعات الريفية التي تشكل السواد الأعظم من سكان البلاد. فالولاة والحكام ومساعدوهم أدوات للنميمة والتخابر وزرع الفتن والمؤامرات وابتزاز الأهالي وتكريس النظرة الدونية للمواطن في تلك الجهات، وإرغامه، ملاطفة أو عنوة، على تسديد الإتاوات. وبعد ذلك يتم الحديث عن التنمية والاقتصاد الريفي وعن أولوية الريفي على المديني… بينما يتم تجاهل أصل المشكل وتبقى دار ‘ابن لقمان’ على حالها. واليوم تبرهن الانقلابات والانتخابات، على أن الدولة سلطة وإدارة لا تزال في جوهرها مأزومة لا صلة لها بالناس، وأن مسيرات التأييد، والإدانة أيضا، قد تدل على أن مواطني البلاد يعيشون حالة فراغ دائم، لغياب مستوى معيشي مقبول، ولضعف أدوات الانتاج والتنافس التي ينشغل بها الناس عادة وتشغلهم عن الكثير من التهافت على فتات الوظائف والأعمال السرية غير المصنفة (نميمة، تخابر، …) ولذلك يصح القول إن الدولة الوطنية المأزومة لم تبن اقتصادا ولم تراكم ثروة، بل انشغلت ببناء منظومة القمع أو تعزيز أدواتها الموروثة من الأجنبي، وسيرت الدولة كحقل ريعي يوزع حسب الطاعة والتزلف، أما المواطنون المساكين فأصبحوا مرغمين، على التعامل مع هذا الوضع، فمنهم من انخرط في لعبة التعامل مع الحاكم، كما كان الأمر مع الأجنبي، ومنهم من وقف بالضد من المسيرين للدولة وقنع بالقليل من القوت والكرامة، أما الغالبية من الناس فهم في واد والدولة في واد آخر، لا ينتظرون خيرا إلا من السماء التي تجود بالمطر وغيره من رحمة الباري، ولا يريدون من الدولة إلا أن تكفيهم شرها وشر حكامها وولاتها ووكلائها الذين يعيثون فسادا في دماء الناس وأعراضهم كما فعل وال سابق في ولاية شرقية قصية، ولم تتناطح فيها عنزتان، واقتنع الجميع بأنه لاخير في هذه الدولة التي لا هم لها إلا التحكم في الحقل المجتمعي عبر الضبط والقمع أو الترغيب بفتات التعيينات، لكن الحال لن يسوغ دائما للسلطة، لأن حاجات الناس تتعقد وتزداد والكيان الوطني يضيق أمامه هامش المناورة بفعل التحولات الدولية المعروفة.
وما لم تحسم قضــايا هوية الدولة، وتتحقق المواطنة الحقة للجميع، وتتغير بنية الدولة وتعاطيها مع الناس، فإن دار ابن لقمان ستبقى على حالها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
‘ استاذ بجامعة نواكشوط ـ موريتانيا
——————————————————————————–