الشنقيطي يكتب : “نظرات سريعة على كتاب نار وغضب
من الكتب القليلة التي شهدت إقبالا منقطع النظير مؤخرا كتاب “نار وغضب: داخل بيت ترمب الأبيض” من تأليف الصحفي الأميركي المخضرم مايكل وولف، فنفدت طبعة الكتاب في بضع دقائق بعد صدوره، وملأ الدنيا وشغل الناس. وقد حصلتُ على نسخة من الكتاب بعد أقل من 24 ساعة من صدوره، فعسى أن تتناسب هذه النظرات التحليلية السريعة للكتاب مع سرعة انتشاره بين الناس. المراهق الأبله بالنسبة لعنوان الكتاب؛ فإنه ليس من الواضح ما إن كان الكاتب استوحى تعبير “النار والغضب” الوارد في عنوانه من العهد القديم -خصوصا الإصحاح 66 من سفر أشعيا- في إشارة منه إلى خلفية ترمب الأصولية المسيحية المتصهينة، أم أنه استوحاه من خطاب ترمب الذي هدد فيه كوريا الشمالية بـ”النار والغضب”، إشارةً إلى مواقف ترمب السياسية المتعجرفة، أو أنه استلهمه منهما معاً. يتناول الكتاب -في مدخل، و22 فصلا قصيرا، ثم تذييل- 18 شهرا من حياة دونالد ترمب السياسية مرشحا للرئاسة ورئيسا.
وقد اعتمد الكاتب في ذلك على ما ادَّعى أنه أكثر من مئتيْ مقابلة وحوار مع مطلعين على شأن ترمب أو مرتبطين به. وربما يكون الكاتب حقق لترمب أمنية كان يتمناها إذا كان الكاتب نفسه دقيقا في قوله “إن قصة ترمب هي سعيه الدائب لأن يجعل من نفسه قصة”. لكنها أمنية تحققت بالمقلوب، وعلى غير ما يشتهي ترمب؛ حيث يظهر ترمب -من صفحات هذا الكتاب- شخصا نرجسيا، متكبرا، غاضبا، متسلطا، غريب الأطوار، لا عهدَ له ولا وفاء، مُوَلَّهاً بالمال، فارغ العقل، سطحيَّ التفكير، لا خبرة لديه في صناعة القرار السياسي، ولا يملك الحكمة والحس السليم الذي يؤهله لذلك. بل يتسم بالكثير من الارتجال والتعجل، ويعجز عن التحليل المنطقي، وعن ربط النتائج بأسبابها. فترمب -في كتاب وولف- أشبه ما يكون بالمراهق الأبله، حيث تنحصر هواياته في ثلاث: مشاهدة التلفزيون، وأكل شطائر الهامبرغر، والثرثرة في الهاتف.
ولذلك انتهى به الأمر إلى أن أصبحت تسيِّره حفنة من الأقارب والمقربين، خصوصا صهره جاريد كوشنر وابنته إيفانكا التي اعتنقت الديانة اليهودية، لكي تتزوج جاريد اليهودي الأرثوذكسي المحافظ. أما البيت الأبيض -الذي هو رمز قوة أميركا وفتوَّتها- فقد بدا في الكتاب قصراً باهتاً، خاوياً على عروشه، يسود فيه الارتجال والمزاجية والفوضى، ويغيب عنه التخطيط المتزن والتفكير الإستراتيجي.
ويظهر من الكتاب أن ترمب عاجز عن كسب احترام أي من أقاربه أو مقربيه، فقد امتلأ الكتاب اقتباساً لطعونهم فيه وسخريتهم منه، بمن في ذلك أقرب الناس إليه: ابنته إيفانكا وصهره كوشنر.
وكل ذلك يدل على انحطاط فظيع في القيم السياسية الأميركية، وتراجع عميق في الثقافة السياسية الأميركية. يتضمن الكتاب تفاصيل هائلة عن سنة ونصف من حياة ترمب السياسية، ابتداء من قراره الترشح للرئاسة، ويقدِّم خريطة مفصَّلة للمحيطين بترمب من المقربين والأقارب، وكيمياء التفاعل بينهم، بما تتضمنه من تحاسد وتنافس على قلب الرئيس، الذي يصفه الكاتب بأنه شديد التأثر بآخر متحدث إليه. ولا يخلو الكتاب من تفاصيل مبتذلة عن شخصية ترمب، منها تعابيره البذيئة، وخناقه مع خدَم البيت الأبيض، وولَعه بأطعمة ماكدونالدز، ومجاهرته ببناء علاقات غير شرعية مع زوجات أصدقائه.
وقد لا يكون من المفيد تلخيص مضمون الكتاب لأن أكثره لا يخرج عن الأحداث التي تداولتها سابقا وسائل الإعلام، من ترشحه المفاجئ إلى نصره الانتخابي الذي فاجأه هو ومحيطه القريب قبل أن يفاجئ الآخرين، واتهامه بعلاقات مشبوهة مع الروس، وقراره بحظر دخول مواطني دول إسلامية لأميركا، وإقالته للجنرال مايكل فلين والمستشار ستيف بانون، وزيارته الباذخة للسعودية… إلخ. أثمن الفصول ولعل الفصل السابع عشر من الكتاب هو أثمن فصوله بالنسبة للقارئ العربي، إذ يتضمن هذا الفصل معلومات لم تكن منشورة من قبل عن قصة العلاقة السرية بين إدارة ترمب والقيادة السعودية الجديدة التي يتصدرها ولي العهد محمد بن سلمان. ففي هذا الفصل يصف الكاتب الشيخوخة القيادية والجمود المؤسسي في السعودية، ثم يعقب على ذلك بأن “محمد بن سلمان المدْمن على ألعاب الفيديو نمطٌ جديد من القيادة في السعودية” لأن “رؤيته رؤية ترمبية”.
ويجد الكاتب أوْجُه شبه عديدة بين ترمب وابن سلمان، منها التعجل، والسذاجة السياسية، وضعف الإلمام بالشؤون العالمية. بل إن الكاتب ليجد شبَهاً عاماً بين آل سعود وآل ترمب. ويذكر المؤلف أن محمد بن سلمان سارع بالاتصال على جاريد كوشنر (صهر ترمب ومستشاره) بعد فوز ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية مباشرة. وفي ذلك الاتصال المبكر؛ وعَد ابنُ سلمان كوشنر بأنه سيكون “رجُلَه في المملكة السعودية”! وهو وعدٌ يبدو أن صاحبه قد وفى به تماما. لذلك ينقل الكاتب عن ترمب قوله لأحد أصدقائه المقربين: “لقد كسب جاريد العرب إلى جانبنا”.
وفي زيارة ترمب للسعودية؛ يذكر الكاتب أن القيادة السعودية أنفقت 75 مليون دولار على الحفلة التي نظمتها على شرف ترمب ووفده المرافق. “يبدو منظور ترمب الإستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط تبسيطيا للغاية، فهو وفريق عمله يعتقدون -كما يقول الكاتب- أن اللاعبين المهمين في المنطقة أربعة، وهم: إسرائيل ومصر والسعودية وإيران، وأن على أميركا أن تجمع الثلاثة الأُول ضد إيران. وهذا المنظور امتداد لنظرة كلية سطحية يقسم ترمب بمقتضاها العالمَ إلى ثلاثة أقسام: قوى عدوة، وقوى صديقة، ومن لا قوة لديهم” فإذا أضفْنا إلى ذلك ما يذكره المؤلف من أن هنري كيسنجر “وضع كوشنر تحت جناحه”، وأنه يقول: “إن كوشنر سيكون كيسنجر الجديد”؛ فإن الاستثمار الإستراتيجي الذي حققه كوشنر لقومه -بكسْبه محمد بن سلمان- لا يمكن التقليل من شأنه، أو من انعكاساته السيئة على مستقبل هذه المنطقة وشعوبها. لكن وعْد ابن سلمان وكرم ضيافته كان مقابل تحقيق طموحه الشخصي في الحصول على الدعم الأميركي لانقلابه على ابن عمه ولي العهد السعودية -آنذاك- محمد بن نايف. وهو ما تم بالفعل، وتفاخر به ترمب -فيما ينقله