مقالات

هستيريا المدمنين على السفارات / محمد الأمين ولد أبتي

أكثر من أسبوع مضى على إقدام المستشار الأول بالسفارة الموريتانية بتونس على الاعتداء الجسدي على معالي وزير الشؤون الخارجية و التعاون بفندق إقامته بتونس، بعد الاعتداء معنويا بكلمات جارحة على السفير الذي يعتبر الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية في بلد الإبتعاث، خلال اجتماعهما مع الوزير بمكاتب السفارة، في واقعة سابقة في تاريخ وزارتنا، ربما ذهبت أبعد للقول إنها كذلك في تاريخ الدبلوماسية العالمية.
هذه الواقعة هي اليوم بين يدي الجهات المختصة في الإدارة و القضاء، و هي الجهات التي أخذت تتكفل فعلا بالقضية و بدأت تتخذ الإجراءات المناسبة وفقا للوائح الإدارية و مواد القانون الجنائي الموريتاني، و أنا أضم صوتي إلى الأصوات الكثيرة المرتفعة من هنا و هناك مطالبة بالصرامة في تطبيق مقتضيات القواعد النظامية و المساطر القضائية. لكنني أضيف بأنه ما دام الأمر يتعلق بخرجة سافرة على هذا النحو النادر لواحد من المنتمين ـ على ما يبدو ـ إلى فئة الذين يعتبرون أنفسهم فوق القانون و فوق السلطة العمومية المكلفة بتنفيذه، فإن رد الفعل المناسب ينبغي أن يحمل أعلى درجات التعبير عن قوة السلطة العمومية و صرامة الجهاز القضائي.
و أتوقف عند هذا الحد متجنبا التجاوز على صلاحيات الإدارة و القضاء، لأعبر نحو المركزي في المساهمة التي أردت تقديمها حول هذه القضية، و هو ما يرتبط تحديدا بدلالة هذه القضية و ما يفترض أن يكون لها من نتائج و انعكاسات علينا نحن أشخاص الدبلوماسية الموريتانية و على قطاعنا، في وقت بدأنا نتجاوز فيه لحظة الصدمة العاطفية بخروج وزيرنا بحمد الله سليما و معافى من هذه التجربة ليصبح بمقدور العمل العقلاني التحليلي أن يجد له مكانا، و بعد أن بدأت هذه الحادثة المؤسفة تتحرر شيئا فشيئا من الأعمدة المركزية لصحافة الإثارة الإخبارية و تنتقل من قضية رأي عام غير مستنير على نحو كاف حول قضايا الدبلوماسية الموريتانية إلى قضية مهنية للتفكير داخل الحقل الدبلوماسي، و موضوع لجدل خافت أو عال في مكاتب وزارة الشؤون الخارجية و التعاون و بعثاتنا الدبلوماسية في الخارج.
و أمسك القلم اليوم للكتابة مجددا عن همومنا في الوزارة ـ بعد أن كنت قد نذرت الصوم عنها ـ في ظل غياب التعليق الرسمي من الوزارة، و إمساك الدبلوماسيين المهنيين و مجموع موظفي الوزارة على نحو غير مبرر عن القيام بأية مبادرة لإدانة هذا التصرف المشين و المسيء إلى سمعة القطاع و موظفيه، بل و إلى سمعة البلد ككل، تاركين المجال للصحفيين و لغير المنتمين للقطاع لتوظيف الحادثة في حملة دعائية ضد موظفي الوزارة و طاقمها القيادي و على رأسه معالي الوزير، ضمن مواصلة لا أدري كيف يمكن تبريرها هذه المرة لما سميته “نهج الدبلوماسية الخرساء” (راجع الدراسة التي نشرناها منتصف ابريل 2010 بعنوان “الكتاب الأبيض حول التعيينات الدبلوماسية ليوم 12 ابريل”).
و أبدأ هنا من حيث انتهى البعض في تعليقاتهم الشفهية و المكتوبة، لأقول لهم بـأن تعاملهم مع هذا السلوك المنحرف كتعبير عن المستوى المتدني للدبلوماسيين الموريتانيين و عن النقص في التجربة الإدارية لدى الوزير و الأمين العام، إنما يعود إلى قياس حاضرنا الدبلوماسي بأمس قريب قطعنا معه بحمد الله. سادتي زوروا موقع الحكومة الموريتانية لتتعلموا أن وزير الشؤون الخارجية و التعاون الحالي كان يشغل منصبا إداريا عام 1968 عندما دخلت أنا و الوزيرة السابقة عالم الأحياء، و أعتقد أن ذلك كاف للبرهنة على أصالة و رسوخ التجربة المهنية للرجل. تعلموا أيضا أن الأمين العام الحالي للوزارة هو دبلوماسي مهني تخرج من شعبة الدبلوماسية بالمدرسة الوطنية للإدارة عام 1984، و قد التحق بالدرس الدبلوماسي قادما من منصب حاكم مقاطعة، و هو اليوم يحظى برتبة وزير مفوض و هي أعلى رتبة في سلك الدبلوماسيين المهنيين.
أما بخصوص أشخاص الدبلوماسية الموريتانية فما عليكم سوى أن تفتحوا صفحة الأخبار بالمواقع الالكترونية التي تكتبون فيها لتجدوا أن وزارتنا استقبلت 59 دبلوماسيا مهنيا متخرجين من المدرسة الوطنية للإدارة، سلم الوزير الأول للأول منهم الجائزة التقديرية لحصوله على درجة الامتياز الأولى بين ال 500 خريج من مختلف الأسلاك الإدارية.
و هذه الدفعة تنضم إلى كوكبة النخبة الرواد من خريجي شعبة الدبلوماسية في ثمانينيات القرن ال 20 و على رأسهم دفعة 1984، و بعدها تأتي مجموعة ال 15 مستشارا للشؤون الخارجية المكتتبة بعد المسابقة الداخلية لعام 2007 و مجموع أفرادها دخلوا سلك الوظيفة العمومية قبل نهاية عام 1991.لتلحق بهم مجموعة ال 20 مستشارا للشؤون الخارجية المتخرجين من المدرسة الوطنية للإدارة عام 2009.
و وفقا لهذا التفصيل يمكن القول إن الدبلوماسيين المهنيين ـ من غير المتقاعدين ـ قد وصل عددهم إلى أزيد من 150. فإذا أضفت إليهم العدد المعتبر من الكوادر التي تستعين بها الوزارة من خارج منسوبي السلك الدبلوماسي يمكننا القول بأن أزمة الدبلوماسية الموريتانية ليست أزمة أشخاص بمقدورهم القيام بالمسؤولية الدبلوماسية على أحسن وجه. أشخاص لديهم ما يقدمونه للبلد و دبلوماسيته في حلبة التنافس الحضاري و الفكري في الملتقيات العالمية و منتديات التبادل الدولي، بعيدا عن حلبات الملاكمة و العنف الجرمي.
على رسلكم إخوتي فليس هذا السلوك الشاذ العينة المعبرة عن إنائنا ـ نحن الدبلوماسيين الموريتانيين ـ و ما يمكن أن ينضح به هذا الإناء، و ما عليكم سوى المبادرة إلى تحقيقات صحفية جادة تتعاطى معها وزارتنا بثقة و بعيدا عن تحمل أخطاء الآخرين و الخوف من القطيعة مع ممارسات الفساد الإداري للطواقم السابقة، لتتحققوا مما قلته لكم.
ذلك خطابنا الموجه للاستهلاك الخارجي و في مواجهة هؤلاء الذين يريدون اعتبار هذه الحادثة ماركة عامة لأشخاص هذا القطاع المليء بالكفاءات المتميزة معرفة و خبرة و خلقا. أما حديث الذات و الداخل الذي يخصنا نحن في الوزارة، فهو ذو شجون، و كم أنا حزين لكوننا لا نجد أي إطار لتبادل الحديث و التحليل في هذه الوزارة يمنعنا من اللجوء إلى وسائل الإعلام التي يعاني أبناء هذه الوزارة من عقدة تجاهها، رغم أنها و سائل اتصال لا غبار عليها في ظل دولة ديمقراطية تنتمي إلى عصر القرية الكونية، حيث تسلط عليك ـ شئت أم أبيت ـ الأقمار الصناعية و شبكات الانترنت. دولة لا أستطيع أن أتصور أن تكون فيها وزارة الخارجية بكماء و صماء إزاء ما يقال داخلها و حولها، بينما يكون لرئيس الجمهورية ذاته كما لوزيره الأول صفحات للتواصل على شبكة الفيسبوك. لم لا نقول إنه في اللحظة التي تخرج فيها كلمات السباب ليتبعها العنف اللفظي فلابد أن فضاءات التواصل و الحوار و مقارعة الحجة بالحجة ليست متوفرة قدر الكفاية.
سيدي الوزير أقدم لكم الاعتذار نيابة عن الدبلوماسيين المهنيين الذين لم و لن يقوموا يوما بمثل هذا السلوك المشين، و أفيدكم ـ و أنا المعروف بين أهل هذا الربع بقلة التزلف لذوي السلطان ـ بأن صاحب هذا الاعتداء لم يقصدكم شخصيا و الكل يعرف أن لا وجود لمشكلة خاصة بينكم و بينه. سيدي الوزير عندما تتاح لي الفرصة سأثبت لكم بأن هنالك فئة كاملة من موظفي هذه الوزارة أدمنوا منذ زمن بعيد المناصب السامية و الألقاب التفخيمية دون أن تستطيع ـ مهما بذلت من جهد تحقيقي ـ أن تجد مبررا نظاميا لولوجهم إلى السلك الدبلوماسي فأحرى للتعيينات السامية و الامتيازات العالية التي يحظون بها.
هذه الفئة هي التي قالت لنا الوزيرة السابقة بخصوصها ـ ضمن تبريراتها غير الموفقة لمذكرة تعيينات 12 ابريل 2010 ـ أنها لا تستطيع تطبيق مبدأ التناوب الدبلوماسي في حقها خوفا من القوى الحامية لهم، و لذلك أكتفت بنقلهم من سفارة إلى أخرى حتى يتعلموا بأن بإمكان الدولة تحريكهم و عندها سيكون بالإمكان إعادتهم ذات يوم إلى نواكشوط. هل كانت منت مكناس تعرف أن هؤلاء جاهزون لاستخدام القوة العضلية ضد وزير الخارجية إذا ما تم تطبيق مبدأ التناوب الدبلوماسي في حقهم؟
لا أعرف و لكن المصادر أفادتنا بأن هذه “العملية التربوية” في نقل الدبلوماسيين المدمنين للخارج من سفارة إلى أخرى كلفت الخزينة يومها أزيد من 150 مليون أوقية. و يوم أن قررت الوزيرة أن تطبق في التعيينات ما ترى هي أنه العدالة لم تزد على أن ضمت إلي المحظيين بالتعيين في البعثات الدبلوماسية رغم أنف القوانين و الأعراف الإدارية رفاقهم من المدعوين “دبلوماسيين” ظلما للوظيفة العمومية و للمهمة الدبلوماسية ممن تسللوا في سنوات “البيات القانوني” و في زمن الشهادات و السير الذاتية المزورة إلى قيادة المصالح في الإدارة المركزية.
سيدي الوزير أفيدكم بأن الوزيرة السابقة استهدفت مجموعة ال 35 دبلوماسيا مهنيا أمام البرلمان، واصفة إياهم بأنهم لا يصلحون لتمثيل البلد بعد أن أقصتهم من مذكرة ال 57 تعيينا التي عينت فيها كل من هب و دب، و رغم ذلك لم يحدث أي احتجاج حقيقي من طرف المجموعة. و إن دل هذا على شيء فإنما هو على هذه الوزارة هي محمية غير معلنة خارج القوانين الإدارية للبلد، و الحق فيها و الاحتجاج و المطالبة لحد الحد استخدام العضلات هي لمن يتميز بكونه قادما إليها بطرية غير مشروعة.
سيدي الوزير هذا التحدي الجرمي لهيبة الدولة التي يمثل فيها رئيس الجمهورية الإرادة العامة للشعب و تمثلون أنتم و سفراؤكم بقوة الثقة التي منحها لكم الرئيس ذات الإرادة العامة أمام أشخاص القانون الدولي ـ هذا التحدي ـ فرصتكم لتصفية مافيا كاملة تمثل العقبة الأهم أمام نجاح الدبلوماسية الموريتانية، و البديل من الدبلوماسيين المهنيين المتشبعين بالمعارف و الخبرات و التجارب المطلوبة موجودون و ملفاتهم ناصعة لا غبار عليها.
سيدي الوزير قضية المعايير و التناوب الدبلوماسي و الاعتراف للدبلوماسيين المهنيين بحق الأسبقية في وزارتهم قضية آن لها أن تجد الحل. و للتذكير فهي موضوع مساءلتين برلمانيتين، و موضوع رسالتين وجههما المعنيون إلى رئيس الجمهورية، أولاهما بتاريخ 18/01/2010 و هي موقعة من 35 مستشارا للشؤون الخارجية.
و المطلب البسيط الذي تتضمنه كل هذه المراسلات، و الذي أكدت عليه أنا لشهور طيلة العام الماضي هو إعداد جدول تفصيلي مع قاعدة بيانات واضحة عن مجموع موظفي الوزارة بإشراك ممثلين للدبلوماسيين و الاعتماد على ذلك كأساس في التعيينات. و يعرف الجميع أن هذا المنهج عندما يتم اعتماده فإن الوزارة ستتحرر من جحيم الغموض و اللاعقلانية و اللانظامية الذي تتخبط فيه، و تنضم إلى الدائرة الطبيعية للدبلوماسيات في شبه المنطقة و العالم، حيث يقول لك السفير و المستشار يوم وصوله متى سيغادر عائدا إلى بلده و متى سيغادر بعد ذلك في مهمة دبلوماسية جديدة.
و سنخرج من هذه الحالة التي نحن فيها، حيث يقال لك أن لكل سفير أو مدير قبرا أو صالحا أو ساحرا يحمي له امتيازاته، و الآخرون يحرسهم الوسطاء و الوسيطات. حالة هي وحدها ما يفسر العدد المرتفع من مجانين مذكرات التعيين في السفارات و الاستدعاء منها، و ما يفسر أن القاعدة الذهبية التي يواجهك بها الوزير و الأمين العام دون أية تورية، بعد أن يكون البواب و “مدير كاسات الشاي” كما مدير القطاع الدبلوماسي الذي ألحقت به قد أحفظوكها حفظ فاتحة الكتاب ـ تلك القاعدة الذهبية ـ تقول: “كل شيء مباح هنا و كل الأحلام مشروعة مقابل خط أحمر واحد هو الحديث عن معايير التعيين أو قوانين و قواعد تسيير الأشخاص”.
سيدي الوزير عندما لا تبادرون إلى تحرير وزارتكم من هذه الحالة فلا تستغربوا أن تذهب مافيا الفاسدين المدمنين على إمتيازات التعيين في البعثات الدبلوماسية في هيستيريا و هلوسات جنونها أبعد من ذلك. و تعرفون سيدي الوزير و يعرف أمينكم العام أن مسألة التعيينات هذه لا تترك لكم فرصة للعمل بهدوء، حيث هنالك في كل دقيقة أشخاص يدخلون المكتب ب”عضلات و جاهة” مفتولة (نواب، شيوخ، ضباط سامون، رجال أعمال …)، و في ذات الوقت توجد على الهاتف مجموعة أخرى، و الجميع مهمتهم واحدة هي الاعتداء على نزاهة و شفافية و عدالة التعيينات التي تقومون بها، لأشخاص أوكل إليكم قانون البلد تسييرهم و فق ضوابط أنتم لوحدكم المسؤولون عنها,

leminebety@yahoo.fr

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button