اكتبوا كى لا تموتوا من الخجل.. ! / الولي ولد سيدي هيبه
rرأت بنهم شديد و سرور عارم ما كتبه في المرة قبل الأخيرة الأستاذ و الكاتب و الأديب “محمدن ولد اشدو” على صفحات بعض المواقع الالكترونية1 النيرة و ما سكبه من مداد زكي الرائحة و ندي الحروف على يابس واقعنا الثقافي ليكون منه في إحدى نوادر السكب
المعرفي الشحيح ما يسهل تناوله في هذا الظرف الذي نحتاج فيه إلى هبة الأقلام الجريئة التي تغرف من بحر الإدراك العالي لدى أصحابها بواقع أمرنا المتحلل و انطفاء نار طبخته الشحيحة في بلاد كان أهلها إلى زمن غير بعيد مضرب الأمثال و الأسوة الحسنة في التأليف و التدوين و حل النوازل و التحصيل المعرفي و الحفظ و قوة الذاكرة.
صحيح أن الكاتب المخضرم و الملم الجيد بخبايا تاريخ البلد السياسي و هو الذي كان له فيه ذات يوم شأن و أي شأن قد تطرق إلى محاور دقيقة هي أهم ما يستدعينا بموجبها اليوم للتفكير الملي و الجاد في انتشال أنفسنا داخل حيزنا الوجودي المحاصر من سيول التجاوز الجارفة، و إن بأسلوب، و ليعذرنا المفكر، قد لا يساعد كثيرا بما يقتطعه في ذلك و في عصر السرعة من وقت ثمين على اختزال ملح للزمن باتجاه الخلاص قبل فوات الأوان. فإن الوقوف بالتحليل على ما كان من الصراعات الفكرية التي:
· خَندقت، في الماضي، الجميع و راء “صنمية” الفكر و “ديماغوجية” الحركات التي ولى عهدها و الأحزاب التي قامت على رمادها و لم تتحر من أساليبها و مناهجها،
· و قزمت حيز الأوطان و ميعت فكر أهلها المحتوي همومها و متطلباتها و خصوصياتها حتى كانت من بعد كالغراب لما هم أن يحاكي مشية النعامة و لم يستطع أراد العودة إلى مشيته التي كانت تسمنه و تغنيه لم يفلح لأن صفعة القدر المحتوم كانت سلبته إياها.
و إني لأعجب للمثقفين لا يملكون زمام تفكيرهم و يأبون، في إصرار شبه مرضي وبخمول عقلي يلازمه كسل حركي مزمن، إلا أن يظلوا
– و فقط في حيز ما تفرض لهم رغما عنها و عنهم مكانتُهم و مستوياتُهم في ترتيبية مواطني البلد في المعرفة و العطاء – في طرحهم و معالجتهم لأحوالهم و قضايا أمتهم جزء من تفكير الآخرين و استسلاما لاستنتاجاتهم و عملا بتوجيهاتهم بعيدا عن خصوصياتهم و مميزاتهم.
و إني لأزداد كذلك تعجبا عندما أدرك من ناحية – مثلي في ذلك مثل غيري – أن زمن الإيديولوجيات التي كانت تنظر لتسيير مصائر الشعوب قد ولى و أن منطقية الأشياء و الوثبة الهائلة التي حققها العقل البشري في مواجهة القدرية السلبية، و الدفق الغزير للعلوم الإنسانية بشتى اهتماماتها التي لا تترك ظاهرة صغيرة و لا كبيرة إلا تشبعها دراسة و تحليلا.. هي كلها الأسباب الذي باتت الميسر بدون منازع لحركية العالم بعيدا عن أي إكراه أو”دوغماتية” علما بالنتيجة أن كل النظريات تظل تؤتي أكلها حتى تحل محلها من هي أكثر ملاءمة للأوضاع المتجددة في سرمدية الاستمرار.
و إني لأرى من ناحية أخرى أن هذا العناد و ذاك التكاسل المزمنين في عموم سلوك الطبقة المتعلمة و المثقفة و السياسية الموجودة في واقع الأمر كمَا و نوعًا إلا أنها استاتيكية، هما العاملان يمنعان بتاتا من خلق الحلول الملائمة للواقع المرير في ظل الأخذ ضمنها حلولا بالتميز الإيجابي و الخصوصيات المتحركة و الانسجام المصاحب في ذالك مع الحراك العالمي العام..و إنها بذلك تبقى الوضعية التي تشي بكل إخفاق المعطى الثقافي و الفكري وبالمستوى المفجع للتخلف العلمي و التنموي اللذان يعيشهما البلد و أهله لا يكادون يحسون بذلك و كأنهم الأجرب الذي يعتاد على الألم حتى يفقد الإحساس بالتآكل الذي يفترس جلده فيقلع تلقائيا عن الحكة مستسلما دون مقاومة.
إن من يتابع ديناميكية الحياة في الدول النامية و تلك التي انطلقت بقوة على إثرها لا بد و أن يدرك أن أفراد شعوب هذه الدول قد تجاوزوا منذ أمد اعتبارات الذاتية الضيقة التي من رواسب أمراض أصبحت من الماضي السحيق كالانتماء العرقي الضيق و القبلي المتجاوز و الجهوي السلبي، و أن يلحظ كذلك أن الحكومات و القيادات السياسية و العلمية و المخططة و الموجهة في حيز الأنماط التربوية المؤطرة لم تعد تتشكل على الأسس التقليدية الواهية المفتوحة على التنافس السلبي في دائرة الاستجابة لغرائز التسلط و الهيمنة، و إنما عمليا و تلقائيا بما تفرزه و تمليه في ذلك الحاجة العامة و المصلحة العليا اللتين لا دخل للأفراد فيهما مطلقا دون كفاءاتهم و جدارتهم بالثقة التي تودعها فيهم شعوبهم.
و إذ الأمور أخذت بهذا التحول الاستثنائي في تاريخ البشرية منذ أول خلق منحى جديدا فإنه لم يعد ضروريا مطلقا التنبيه إلى أنه لم يبق كذلك من رواسب عموم الأيديولوجيات – التي كانت رمت بكل ثقلها و كثافة ظلالها و قوة تأثيرها على مطلق تراب قارات العالم و حفرت مكانة لها في عقول كل شعوبها التي تقاسمت الاعتقاد فيها و آمنت بقوتها و سحر بيان لغتها في مساعيها و مقاصدها – إلا ما يمسك من لا يزالون متشبثين بعراها عن تصريف أفعال الحراك إلى المستقبل بمنطق الواقع الجديد الذي تحرر مطلقا من ظلامية و قسرية الفكر الجامد… حقيقة وعتها مجددا شعوب أمريكا اللاتينية التي كانت تترنح سكرا تحت تأثير مقاطع الشيغفارية و الكاستروية حتى الثمالة و لا تقطع عمليا إلى المستقبل قيد أنملة. و ها هي اليوم تقارع بطيها تلك الصفحة و بأخذها عوضا عنها بمفاهيم العصر و تطلعات الشعوب إلى الحرية في التعبير و في الإبداع و المنافسة تتسلق سنة بعد سنة مراقي التقدم و تلج حلبات التنافس مع من سبقوهم إلى إدراك تلك الحقيقىة. فهذا الشعب “البانامي” في أمريكا الوسطى يستلم زمام إدراة “قنال باناما” الذي يربط بين المحيطين الأطلسي و الهادئ و يقلص الزمن و المسافة، و يسترد للبلاد كرامتها و يحفظ مصالحها بأيدي و عقول أبنائها. و تلك هي الأخرى دولة البرازيل العظيمة التي تتشكل ساكنتها من خليط من الأعراق و الثقافات تمخر عباب يم الديمقراطية و العلم و الصناعة و تتبوأ مكانتها اللائقة من بين الأمم ذات الشأن. و هو الأمر الذي لم يتسن لها كما هو الحال لغيرها إلا عندما طلقت طلائعها الثقافية و السياسية مع منطق الاديولوجيات الدوغماتية و انحسارية أذهان أممها في أنماط جامدة من الفكر المقولب و الموجه بصرامة.
و في حين تزخر البلاد بالطاقات الفردية العالية و الكفاءات النادرة من كل الأنواع و الأصناف و على كل الدرجات و جميع المستويات، فإن العجيب يبقى على النقيض من ذلك، افتقار قادتها الفكريين و زعمائها السياسيين و موجهيها الروحيين و قادتها الحاكمين إلى القدرة على تدبير أمر هذا الثراء و استغلاله بما يعمم الوعي و يرسخ المبادئ و القيم و يطلق العنان للبناء و يرفع سهم التنمية و ينشر الخير و العدل و يوطد وحدة الوطن و لحمة الأمة و و يرسخ قواعد الدولة و يضبط إيقاع المصير المشترك و ينقي الدين من الشوائب و يضع البلاد نهائيا على سكة البناء و يضمن ديمومة الحال في ذلك… عجز غير متوقع لا يوازيه كما هو الحال إلا ما يكون من خنوع هذه القيادات و الزعامات لما يمارس عليها من اضطهاد الطفيليين و نفوذ الوصوليين و تأثير المتزلفين المتجردين من مآثر الضمير و محامد القيم الذين خلا لهم الجو فلم يفلتوها فرصة ليضربوا أول ما يحلو لهم ضربه منظومة أخلاقية تلفظ أنفاسها الأخيرة ليسعوا بعدها إلى إثبات أن ضربها نصرا و يرسخوا قاعدة أنها القشة التي قصمت طهر البعير الأجرب.
و في ظل هذه الوضعية الاستثنائية في بلد استثنائي و عقليات استثنائية و طبقة مثقفة استثنائية و ممارسة سياسية استثنائية هي الأخرى لا بد من يقظة الأقلام المتبصرة لفضح مكامن الخلل و تقديم الحلول المواتية و فتح الباب واسعا أمام الحل المطلوب لبلد و لن نمل قولها محاط بكل أسباب التفكك و الاندثار. و بقدر ما أن هذه الأقلام العامرة بمداد التنوير مطالبة في إلحاح شديد بذلك من أجل بقاء وطنها و خلاص شعبها، فإنها إن لم تفعل في موازاة ذلك فإنها ستموت حتما من الخجل.