مقالات

اتفاق داكار: إسرائيل في التفاصيل! /محمد ولد المنى / mohedelmona@yahoo.fr

نتحدث هذه الأيام عن اتفاق داكار المبرم بين أطراف الأزمة الموريتانية التي اندلعت منذ عشرة أشهر، وتفيض أحاديثنا حول مكاسب هذا الطرف وخسائر ذلك، أو مرونة هذا وتصلب ذاك… لكن رغم المسؤولية الوطنية العالية التي أظهرتها الأطراف الموريتانية الثلاثة، فالحقيقة هي أن الفاعلين الأساسيين في الدفع بالمفاوضات إلى ذلك الاتفاق لم يكن بينهم طرف موريتاني بالمعنى الحقيقي لكلمة “طرف”. وحتى “الوسيط” السنغالي نفسه قد لا يكون الفاعل الأساسي أو صاحب المصلحة الأكبر في ما جرى. ورغم ذلك فأكثر الأطراف الإقليمية اهتماماً بالشأن الموريتاني يبقى المغرب والسنغال، وهما دولتان مرتبطتان بتحالف تقليدي قوي ومتين، ولم تفارق مخيال صانعي القرار السياسي فيهما أُمنية اليوم الذي تصبح فيه حدودهما على تماس جغرافي مباشر. فالرباط تعتقد ضمناً أن ذلك سيحقق “عودة الفرع إلى الأصل”، كما سيمثل 80٪ من الحل لمشكلة الصحراء الغربية. أما داكار التي كانت لها هي أيضاً أطماع ودعاوٍ ترابية في موريتانيا، وإن استطاع المختار ولد داداه صد سينجور عن المضي فيها، فإنها تشاطر المغرب أفكاره في هذا الصدد، سواء بالنظر إلى أهمية الثروات الطبيعية التي تزخر بها موريتانيا مقارنة بالاقتصاد السنغالي ذي الموارد الشحيحة، أو باعتبار مساحة الأراضي الموريتانية الشاسعة التي يصح أن يكون نصفها الجنوبي متنفساً لتخفيف ضغط التكدس السكاني واحتقاناته وتوتراته المتزايدة فوق رقعة الأرض السنغالية المحدودة. وفي مدى استهداف أقرب من ذلك، تسعى السنغال إلى تسوية “مرضية” لملف “اللاجئين الموريتانيين” على أراضيها، وها قد تمت ترضيتها بالفعل عبر تسوية ربما فاقت جميع توقعاتها السابقة، وإن وفْق اتفاق غامض وغير معلن، أُبرم على عجل وفي مرحلة استثنائية جداً سيطر فيها الهاجس الانتخابي على حسابات ومواقف النخبة العسكرية الموريتانية الحاكمة. وهنا لا حاجة بنا إلى التذكير بأن هذا الملف كان منذ بدايته تذكرة الدخول المجانية بالنسبة لإسرائيل إلى نواكشوط ولدورها المتواصل في مسرح العرض الموريتاني حتى يومنا هذا.
وبدافع من رؤيتهما الاستراتيجية المشتركة، بما لها من خلفيات تاريخية معروفة، تحركت السنغال -وليس المغرب- لتطرح نفسها كوسيط في الأزمة التي فجرها انقلاب 6 أغسطس 2008؛ وذلك أولا لأن الرأي العام الموريتاني وقواه السياسية يصنفان الجنرال عزيز في خانة المغرب، وثانياً لأن أي دخول مغربي مباشر على خط الأزمة، سيقابله رد فعل من المنافِسة الإقليمية التقليدية، الجزائر، ذات النفوذ القوي داخل الاتحاد الإفريقي. لهذا قررت الرباط وداكار أن يطلق عبد الله واد خطته التي سماها “وساطة”.
حدث ذلك بينما استطاع النظام العسكري أن ينجح في استمالة الجزائر، بعد أن توجست في مرحلة أولى من علاقة الجنرال عزيز بالطرف المغربي، لكن الجزائريين غيروا موقفهم عقب التوقيع مع السلطة الموريتانية الجديدة على اتفاقيات أمنية ونفطية لم تُعلن تفاصيلها إلى الآن. كذلك استطاع الجنرال عزيز إيهام القذاقي ببنوته الروحية له ولطروحته المسماة “النظرية العالمية الثالثة”، وساعده في ذلك أن القذافي لم يفتأ يراوده طموح دفين، ومنذ سنين طويلة، إلى اختراق الساحة الموريتانية وأداء صلاته فيها، وهو الذي اعتاد أن يتبنى قادة انقلابيين ومتمردين أفارقة، كثيراً ما يضرمون حروباً أهلية في بلدانهم، أو يفشلون في الاحتفاظ بالحكم، أو يحتفظون به لينقلبوا أخيراً على القذافي مستعيضين عنه بحليف غربي في الغالب.
وهكذا فإن السنغال والمغرب لا تتحركان في فراغ دولي مطلق، بل ثمة لاعبون دوليون أساسيون في هذا الصدد، لهم مصالح تدعوهم لمحاولة التأثير على توازنات الواقع السياسي ومجرياته في موريتانيا، أهمهم أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل والنظام العربي الرسمي.
بيد أن أوروبا والولايات المتحدة معاً تكادان تسلمان لفرنسا الساركوزية بوجهة نظرها حول قضايا القارة الإفريقية، لاسيما موريتانيا التي كانت إحدى مستعمراتها ذات يوم، ذلك أن هذه الأطراف التي يشغلها في الوقت الحالي على الضفتين الأخريين من الأطلسي والمتوسط موضوعا الإرهاب والهجرة السرية، بدرجات متفاوتة، تجاوزت مرحلة التنافس الخارجي إلى طور التكامل والتنسيق، وأن واشنطن بصفة خاصة تعتبر ساركوزي أخلص زعيم أوروبي مناصرٍ لسياساتها الإمبراطورية التي لم تتغير في الجوهر رغم دخول أوباما إلى البيت الأبيض ورغم عدم انتمائه إلى اليمين المحافظ الذي يعد مثلا أعلى بالنسبة لساركوزي زعيم النسخة “الديجولية” الحالية!
لكن من المدهش أن ساركوزي حليف “المحافظين الجدد”، وعميل “الموساد” السابق (حسب لوفيجارو)، واليهودي من جهة أمه، والذي يقال إنه يضع مصالح إسرائيل قبل مصالح فرنسا في الأولوية… لم يبدِ أي انزعاج من إقدام ولد عبد العزيز على تجميد العلاقة مع إسرائيل!
لكننا نلاحظ في هذا الصدد أن سلطات 6 أغسطس أصرت على “تجميد” العلاقات فقط وليس “قطعها” أحرى سحب الاعتراف بالكيان الصهيوني! ومن اللافت أيضاً أن ذلك القرار الذي بدا ورقة انتخابية رابحة في حينه، وقد استثمره عزيز من خلال السير مع أنصاره مشياً على الأقدام من المطار إلى الرئاسة، لم يأت الجنرال على ذكره بعد ذلك في أي خطاب أو مهرجان أو زيارة… من أنشطته الكثيرة التي اعتاد أن يعدد خلالها ما يعتبرها إنجازاته. وفيما اتهم معارضيه بجميع السلبيات والنقائص الممكنة، محملا إياهم أوزار كل فشل أو إخفاق منذ استقلال البلاد وإلى اليوم، لم يعب على أي منهم دوره في سياسة التطبيع التي سنّها وفرضها نظام ولد الطايع… فلا هو ولا أيٌ من معاونيه ومسؤولي حملته أتى إطلاقاً على ذكر ذلك الموضوع أو ما يتعلق به.
ومن الجوانب “المحيرة” في قرار “التجميد” الذي اتخذه عزيز خلال وجوده في الدوحة، مع كل من أمير قطر ورئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أنه لم يلقَ التشنيع الذي يكون متوقعاً من الصحافة الغربية في حالة كهذه، وهي صحافة معروفة بانحيازها لإسرائيل وبحملاتها التي لا تمل ولا تكل ضد الأنظمة المعادية للدولة العبرية أو ضد أي نظام يقوم بخطوة كالتي أقدم عليها الجنرال عزيز، أحرى إن توفر أدنى دليل يرجح مجرد احتمال أن تكون الخطوة جاءت بإيحاء من إيران. إن النقد الإعلامي الغربي في هذه الحالة كان لو حدث سيغدو مفهوماً بل متوقعاً إلى حد كبير، لاسيما أن ذرائع ذلك النقد متوفرة في نظام أطاح برئيس منتخب “ديمقراطياً” وفرض سلطة تفتقر إلى الشرعية الدستورية! بل المثير أكثر من ذلك أن الصحافة الإسرائيلية ذاتها، وإن اهتمت بخطوة “التجميد” وعلقت عليها، لم تتعرض لنظام الجنرالات بأي نوع من النقد أو التجريح أو التحريض.
إنها مفارقة قد لا تكون لها سابقة في التاريخ السياسي القريب، لكن علاوة على ما سبق يمكن أن نفهمها في ضوء معطيات أساسية ثلاثة:
أولها: الدور الذي لعبه رجلان من فريق ولد عبد العزيز؛ أحدهما الشيخ العافية، سفيره المعين في الرباط، والذي يربطه سابق معرفة بالدوائر الإسرائيلية، وكان قد زار فلسطين المحتلة أثناء وقت عصيب على الشعب الفلسطيني، مما أثار انتقاد كثيرين بمن فيهم “المعتدلون” العرب. والآخر هو محمد سالم ولد لكحل؛ الذي يوصف بـ”مهندس التطبيع” في عهد ولد الطايع، والرئيس الحالي لـ”سلطة التنظيم”. وإلى الآن لا أحد يعرف على وجه التحديد طبيعة ونوع الوعود والتطمينات التي قدمها الرجلان للجانب الإسرائيلي، وإن كان يمكن تخمينها بسهولة.
ثانيها: طبيعة الطرف المناوئ لولد عبد العزيز، فهو يضم عدداً من أصحاب المشارب الأيديولوجية والسوابق السياسية في مناهضة إسرائيل؛ لاسيما الإسلاميين (تواصل) والناصريين (التحالف الشعبي التقدمي) واليساريين (اتحاد قوى التقدم)، إضافة إلى أحمد ولد داداه الذي عارض العلاقة مع إسرائيل ودخل السجن ثلاث مرات بسبب موقفه المناوئ للتطبيع، وتم حل حزبه السابق (اتحاد القوى الديمقراطية) للسبب نفسه، علاوة على أنه عضو أمانة المؤتمر القومي العربي.
ثالثها: كون السلطة العسكرية وموفديها إلى باريس كرروا مراراً أمام المسؤولين الفرنسيين، وفي وسائل الإعلام الأجنبية، أن سيدي ولد الشيخ عبد الله كان يتجه نحو “طلبنة” البلاد، سواء بسلوكه الشخصي (مواظبته على أداء صلاة الجمعة، وبناؤه مسجداً في الرئاسة)، أو من خلال سياسته التي سمحت بترخيص حزب للإسلاميين (تواصل)، وأفسحت المجال أمام خطاب متطرف في منابر المساجد… ما شجع المتعاطفين مع “القاعدة” على استهداف السياح الفرنسيين.
أما النظام العربي الرسمي فهو أيضاً يسلم بالدور الفرنسي في موريتانيا، لأسباب واعتبارات مختلفة. ورغم صمته في الظاهر، فهو في دخيلة نفسه يشعر بامتنان كبير للجنرالات الذين أنهوا بـ”ضربة معلم” أي ذكر للديمقراطية الموريتانية التي انزعجت منها بعض الجهات الرسمية بعد ما تردد ذكرها خلال مسيرات تطالب بإنهاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية وبإقامة مؤسسات الحكم الديمقراطية. ثم انضاف إلى ذلك عنصر المناورة التي قام بها عزيز من خلال تقربه لإيران، لاسيما بعد أن قطعت فنزويلا علاقاتها بإسرائيل ثم قطع المغرب علاقاته بإيران. فقد نجح عزيز من خلال حركة التفافية تجاه طهران، والأرجح أنها تمت برضا مغربي مرتب ومدروس، في إثارة بعض الخشية والاهتمام لدى النظام العربي الرسمي المتوجس من إيران، فكانت استجابته من خلال دور الجامعة العربية داخل مجموعة الاتصال الدولية حول الأزمة الموريتانية، حيث أبدت الجامعة حرصها على النظام الجديد خشية وقوعه في شباك الانخطاف لصالح إيران.
وبإمعان النظر فيما وراء الأطراف الظاهرة وأجنداتها المباشرة، أي في طبيعة الوضع الإقليمي المحيط بموريتانيا، وفي الموقف بين إيران وإسرائيل، وفي الأسلوب الحالي لإدارة علاقات نواكشوط -الرباط من داخل الطابق الخامس تحت الأرض، وفي العلاقات السنغالية الإسرائيلية، والمغربية الإسرائيلية… نجد أن إسرائيل كانت حاضرة على أكثر من طاولة في مفاوضات داكار، وأنها لم تخرج من التفاصيل ولم تغادر نواكشوط، بل لعلها الفاعل الرئيسي في قلب الأزمة الحالية، وأقول “الحالية” حتى لا أستعجل رؤية سلوك أطرافها خلال الأيام القربية القادمة.

– محمد ولد المنى

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button