البضائع المزورة في السوق الموريتانية: الموت القادم من الصين /حمدي ولد الداه
شهدت الأسواق الموريتانية مطلع تسعينيات القرن الماضي، ثورة جديدة في ميدان استيراد السلع والبضائع الاستهلاكية، ويعود ذلك إلى السيل الجارف من التحولات التي رافقت تطور النظام الاقتصادي العالمي في ظل الموجات المتسارعة لما بات يعرف اليوم بالعولمة، تلك التحولات التي فتحت المجال واسعا أم الاستثمارات الصينية التي غزت البلاد بمختلف أنواع البضائع، وبأسعار منخفضة كانت كفيلة بإسالة لعاب المستوردين الموريتانيين أنفسهم، غير أن تلك الثورة وإن كانت قد أسهمت بشكل كبير في إنعاش الاقتصاد الوطني وخلقت سوقا استهلاكية كبيرة داخل المجتمع الموريتاني، إلا أنها، ومع مرور الوقت، أصبحت تكشف عن مساوئ جدية ومخاطر كبيرة، نظرا لما باتت تشكله من تهديدات صحية ووجودية على المستهلك البسيط الذي طالما رأى في مثل هذه البضائع مهربا من غلاء الأسعار ومتنفسا من ضغط الحاجة المستمر
.
وداعا زمن الندرة
لم يعد من اللافت اليوم أن تجد في أفقر البيوت الموريتانية سلعا وملابس وكماليات ومواد غذائية كانت بالأمس القريب حكرا على الأغنياء، كما لم تعد عبارة “صنع في الصين” مثارا لاشمئزاز الطبقة الراقية ذاتها، فقد اختفى، ولو إلى حين، الحاجز الفاصل بين الطبقتين بسبب ركوبهما لموجة استهلاك واحدة، بيد أن الاختلاف قد يبدو واضحا حين يبدأ الكل في التداوي من علله، وحين يكتشف الفقير المتباهي أن ما كان يواري به فقره من سلع وبضائع وأغذية ليس إلا الموت نفسه، وعلى الرغم من انتشار المواد الغذائية والملابس المستوردة من الصين منذ فترة طويلة إلا أنه بدأت مؤخرا صوت منظمات صحية وشخصيات طبية تتعالى للمطالبة بوقف استيراد مثل هذه السلع التي اعتبروها سببا مباشرا في ظهور أمراض خطيرة وانتشارها بين المواطنينن الأمر الذي يرجعه كثيرون إلى غياب معايير الجودة اللازمة في مثل هذه السلع ناهيك عن توفر أغلب هذه المواد، في تركيبتها الصناعية ـ على مكونات غير صالحة للاستهلاك البشري، فمواد غذائية مثل الشائ والحليب، وأخرى أساسية كالملابس والأواني والأدوية فضلا عن مواد زينة كالعطور والمرهمات الجلدية والصابون،والشامبوهات، كلها سلع باتت تشكل ساحة جديدة لمعارك تجارية لا أخلاقية حيث ينتشر التزوير والتزوير المضاد، وحيث تأتي النسخة الثانية من التقليد أسوء بكثير من سابقتها، فما يهم هؤلاء التجار ليس شيئا آخر عدى الربح حتى ولو كان ذلك على حساب أخلاقياتهم وحتى ولو كلف الأمر إغراق الأسواق المحلية بمواد خطيرة من شأنها أن تتسبب في كوارث صحية وأخرى بيئية.
لعبة الموت
ولم يقتصر خطر تلك السلع على أولئك الذين يتشرونها وفق رغبتهم الجامحة في مواراة فقرهم وسد حاجاتهم خاضعين بذلك لإغراءات الأسعار المنخفضة التي تعرض بها تلك البضائع، بل تجاوز أولئك ليصل إلى الأطفال الذين ربما لن تمنحهم المواد الضارة التي تحملها حفاظاتهم ولعبهم فرصة اختيار لعب أصلية قادرة على ضمان تسليتهم دون أن تتسبب في هلاكهم، وهو ما يعني التخلي عن مظاهر التسلية والحداثة نفسها مقابل سلامة الجنس البشري، فلا شك أن أطفالا موريتانيون، حين يؤتون الخيار، سيفضلون اللعب بالرمال على أن يعبثوا ويلهوا بلعب حداثية ألكترونية قد تحمل أسباب فنائهم فالأمر إذن في خطورته ليس منحصرا فيما يمكن أن يشكله انتشار هذه السلع على واقع المستهلك الموريتاني فحسب، وإنما أيضا على مستقبل مجتمع بأسره.
… بأس شديد…
وإذا كانت المواد الغذائية ومواد الزينة ولوازم الأطفال المزورة قد أثارت حملات واسعة هدفت بالأساس إلى التحذير من الخطر الصحي الذي يمكن أن تشكله، كانتشار أمراض السرطان وعينات وبائية من الكبد والحساسيات المفرطة، إلا أن سلعا أخرى كثيرة لا تزال بعيدة عن مثل تلك التحذيرات ، حيث لا تزال قطع غيار السيارات المزورة تتسبب، بشكل آخر في مئات من حوادث المرور المميتة، وذلك نظرا لعدم توفر هذه القطع على المعايير التقنية اللازمة، الأمر الذي كشفت عنه إحصائيات حوادث المرور السنوية والتي لاحظ المتتبعون لها وجود ارتفاع حاد في نسب الحوادث التي تتسبب بها قطع الغيار الصينية المزورة والغير الدقيقة الصنع.
أين الرقيب؟
لا شك أن ظاهرة تقليد البضائع وتزويرها باتت واسعة الانتشار كما لاشك أن الجهات المعنية سواء الجمركية أو الاقتصادية والصحية أو حتى النقابية (جمعية حماية المستهلك) تبقى مطالبة بالتصدي لهذه الظاهرة التي تخلق بدورها تحديات كبيرة من شأنها أن تشكك في جدية العمل الرقابي والنقابي الذي من المفترض أن تقوم به الدولة أو الجمعيات المختصة، فبالرغم من كون البضائع المزورة والضارة تمر بشكل يومي من موانئ البلاد وعلى مرأى ومسمع من السلطات المعنية إلا أنه لم يتم إلى الآن توقيف مثل هذه العمليات، وإنما يتم تسهيل دخول مثل تلك المنتوجات دون اللجوء حتى إلى إخضاعها لمخابر في معامل لقياس الجودة والصلاحية، بل إن ردة فعل الرقيب كثيرا ما تأتي متأخرة وبعد أن يتم توزيع نسب كثيرة من تلك المنتوجات الضارة التي عادة ما تكون قد حصدت أرواح مواطنين لتعلن بعدها الهيئات المعنية عن خطورة الموقف، وضرورة مصادرة هذا النوع أو ذاك من السلع دون أن تكون هنالك متابعة قضائية ولا حتى أخلاقية لمستوردي تلك السموم، الأمر الذي يتكرر مع كل موسم مصادرات.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، والذي قد تشكل الإجابة عنه بادرة للغوص في أعماق السوق الموريتاني المليء بالمتناقضات والتجاوزات الأخلاقية والقانونية، هو إلى أي حد ستتمكن السلطات الاقتصادية والتجارية من الكف عن لعب دور المتفرج والقيام بواجبها الرقابي والتنظيمي بعيدا عن خرق مسلمات الليبرالية المتحولة حتى في عالم ثمل من الرأسمالية وحاصرته بضائع التنين الاشتراكي نفسه؟
وإلى أن يجد المتسائلون جواب سؤالهم، فقد لا يبدو من السخف القول أن أكبر مساوئ الرأسمالية هي أن تتظاهر الدولة في حالات الفوضى العارمة أن الأمر ليس إلا تطبيقا حرفيا لليبرالية السوق.